العريش تقول: هنا القاهرة وهناك باريس
الثلاثاء، 08 أبريل 2025 06:31 م
عبد الحليم محمود
في العريش، المدينة التي صارت عتبة الألم الفلسطيني وبوابة الرجاء الإنساني، وقف ماكرون، لا كزعيم عسكري، ولا كمبشر بالقيم الأوروبية، بل كعقلٍ غربي يحاول التسلل إلى المعادلة المعقّدة بصمت الفلاسفة لا صخب الجنرالات.
الزيارة، في ظاهرها إنسانية. لكن وراء المساعدات، ثمة رسائل مشفّرة، تُكتب بلغة الدبلوماسية وتُقرأ بعين السياسة. فحين يتجوّل رئيس فرنسا في مستودعات الغذاء ويمر بجانب المستشفيات الميدانية، فإنه لا يقرأ فقط خرائط الجوع، بل يعيد رسم حدود التأثير الغربي بعيدًا عن المزاج الأمريكي.
أوروبا، التي طالما بدت ظلًا باهتًا لواشنطن، وجدت في هذه اللحظة فرصة نادرة للبوح. ماكرون لا يواجه إسرائيل مباشرة، لكنه يشير إليها من العريش، كمن يترك رسالة على عتبة الباب دون أن يطرقه. الزيارة لم تكن استعراضًا، بل استدعاءً لذاكرة أوروبا التي تُدرك أن صمتها صار شريكًا في الجريمة.
وفي الخلفية، تتشدق أمريكا بموقف صارم في أوكرانيا، تفرض الرسوم على شركائها، وتنسّق مع إسرائيل بلا مواربة. هذا الصلف الأمريكي، الذي لم يعد يستحي من التناقض، يواجه اليوم صدًى أوروبيًا جديدًا، لا يعلن القطيعة، لكنه يلمّح إلى الاستقلال.
مصر، بدورها، كانت أكثر من مضيفة. فقد قدّمت للعالم صورة متوازنة: استقبال دافئ لماكرون، وشراكة استراتيجية توازن بين الحذر من الغرب والرغبة في استثماره. العريش لم تكن مجرد محطة، بل منصة فلسفية: حيث يُعاد تعريف الصداقة، وتُقاس السيادة بما يُقال وما يُسكت عنه.
ماكرون لم يرفع صوته، لكنه أوصل الرسالة. لم يعارض أمريكا، لكنه غمز من طرفها. لم يهاجم إسرائيل، لكنه حرّك كرسيها على طاولة القرار. إنه ضغط ناعم، لا يُحدث صدعًا، لكنه يترك أثرًا.
حتى الداخل الفرنسي لم يكن غائبًا عن المشهد. فالرئيس الفرنسي، المحاصر بتراجع شعبيته ومناخ سياسي متقلّب، وجد في العريش مساحة رمزية لإعادة ضبط صورته. إنه يقول للفرنسيين: "لسنا تابعين دائمين"، وللغرب: "لسنا مجرد جمهور في مسرحية أمريكية".
وفي مكانٍ ما، في أروقة الفاتيكان الباردة، يتردد صدى الزيارة. فثمة عودة خجولة لصوتٍ أخلاقي طال صمته. زيارة ماكرون أعادت فتح النقاش: هل يمكن أن تكون السياسة فعلًا أخلاقيًا؟ وهل للغرب وجهٌ آخر غير القنابل الذكية والخطب الفارغة؟
العريش، بكل تواضعها الجغرافي، كشفت اتساع الفجوة بين الغرب كفكرة والغرب كواقع. وماكرون، في لحظة تأمل، حاول أن يردم بعضًا من تلك الهوة، لا بحلول، بل بموقف.
وهكذا، لم تكن الزيارة بيانًا سياسيًا، بل أقرب إلى فلسفة حائرة تبحث عن موطئ قدم في رمالٍ متحرّكة. فهل يكون الحضور الأوروبي في الشرق مجرد ومضة؟ أم أننا أمام إرهاصات يقظة حضارية تأخرت كثيرًا؟
الأسئلة أكبر من الصور. لكن المؤكد أن العريش قالت للعالم شيئًا. وماكرون... سمعنا، وإن همس.