مصطفى محمود.. عبقرية لم تكتمل دراميًا
الجمعة، 14 مارس 2025 05:00 م
عبد الحليم محمود
لا شيء يحدث صدفة في هذا العالم، وإن بدا كذلك. هناك إشارات خفية، علامات ترسم لنا طريقًا لا ندرك معناه إلا حين نلتفت إلى الخلف، حين تصبح الذكريات مرايا تعكس ما لم نفهمه في حينه.
في أحد الأيام، وبين زحام العابرين، وجدت نفسي أمام الدكتور مصطفى محمود. لم يكن لقاءً مخطَّطًا، بل لحظة كأنها كُتبت في دفاتر الغيب. كان يسير ببطء، يسنده القدر قبل أن تسنده ابنته. بدا لي وكأن كل سنوات عمره تجسدت في خطواته. رأيت على وجهه ملامح الزمن، لا بمعناها الفسيولوجي، بل كأثر عميق تركته الأفكار والأسئلة. سلمت عليه، فقال بصوت خافت: "إزيَّك يا ابني؟" توقفت لحظة، ثم مضيت في طريقي، لكنه لم يمضِ عني. ظل في ذهني كإشارة لم أفهمها بعد، كأنها وعدٌ خفي بأنني سألتقيه مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس في الطريق.. بل في رحاب صاحبة الجلالة.
هناك أشخاص يمرون في الحياة كظلٍ عابر، وآخرون يتركون أثرًا لا يُمحى، يظلون أسئلة مفتوحة لا إجابات نهائية لها، وكان مصطفى محمود من هؤلاء. لم يكن مجرد كاتب أو عالم أو فيلسوف، بل كان حالةً فريدة، رجلًا عاش بين الشك والإيمان، بين الفلسفة والعلم، بين التجربة الذاتية والبحث عن الحقيقة المطلقة. كان يسأل العالم من حوله، لكنه لم يتوقف يومًا عن مساءلة نفسه أيضًا، وكأن حياته كلها كانت رحلة طويلة نحو المعرفة، لا تقف عند حدود العلم ولا تكتفي بإجابات الدين الجاهزة.
بدأ مصطفى محمود حياته طبيبًا، لكنه سرعان ما أدرك أن الإنسان ليس مجرد جسدٍ يُعالَج، بل كائن معقد، تسكنه الروح كما تسكنه الأسئلة. لم يترك الطب فقط، بل انتقل إلى أفق أوسع، حيث الفلسفة، حيث الشكوك التي كان عليه أن يواجهها، حيث البحث الذي لم يكن هروبًا من الإيمان، بل طريقًا طويلًا إليه. حملت كتاباته الأولى نزعة وجودية، تأملات شاب يبحث عن الحقيقة وسط ضجيج العالم، لكن رحلة الشك لم تكن إلا بدايةً لرحلة أعمق، نحو الإيمان، ليس إيمان العوام، بل الإيمان الذي جاء بعد رحلة من الإنكار، من إعادة التفكير، من محاولة فهم الكون لا قبوله كما هو.
لم يكن مصطفى محمود رحّالةً عاديًا، لم يكن يبحث عن المعالم السياحية ولا يكتفي بسرد الشوارع والمباني، بل كان يبحث في روح الأماكن، في أفكار الناس، في تناقضات الثقافات. لم يذهب إلى باريس مثل غيره، بل رآها مدينة تعيش في زمنين، مزيجًا من التقدم المادي والضياع الروحي. لم يتحدث عن بيروت كمكان، بل كحالة سياسية متوترة تعكس تناقضات الشرق. حتى عندما زار طرابلس، لم يرَ فقط البحر، بل رأى أمواج الأفكار التي تتصارع في خلفيته.
لم تكن هذه الرحلات مجرد تجوال، بل كانت استكشافًا لحقيقة الإنسان في كل مكان، ولهذا جاءت كتاباته مختلفة، لا تصف فقط، بل تحلل، تتأمل، تربط بين المشاهد والحقائق، بين الأزمنة والأفكار، وكأن كل مدينة كانت مرآةً يرى فيها انعكاس أسئلته الوجودية.
كان مصطفى محمود رجلًا يعيش على الحافة، لا يقبل أنصاف الحلول، ولا يرضى باليقين الزائف. لهذا، لم يكن غريبًا أن يتحول من شكوكه الأولى إلى إيمان مبني على المعرفة، لا على التلقين. برنامجه الشهير "العلم والإيمان" لم يكن مجرد استعراض للحقائق العلمية، بل كان محاولةً لفهم أعمق، لكشف كيف يمكن للعلم أن يكون طريقًا إلى الإيمان، لا نقيضًا له.
لكنه، رغم ذلك، لم يكن رجل دين تقليديًا، ولا داعيةً يتحدث من برجٍ عاجي، بل مفكرًا يرى الإيمان تجربةً شخصية، لا تُفرض، ولا تُشترى، بل تُكتَشف. لهذا ظل فكره حيًا حتى اليوم، لأن أسئلته لا تزال قائمة، ولأن محاولته للموازنة بين العلم والدين لم تكن حيلة، بل كانت رحلة حقيقية، يدعو الجميع إلى خوضها بطريقتهم الخاصة.
ورغم أن حياة مصطفى محمود كانت مليئة بالأحداث والأفكار العميقة، إلا أن السينما والتلفزيون لم يقدما عملًا فنيًا يليق به حتى الآن. وفي لقاءٍ مميز جمعني بالكاتب والسيناريست وليد يوسف، وبحضور الصديق والأستاذ محمد الصايم، مدير التحرير بجريدة الجمهورية، والأستاذة ولاء عمران، مساعد رئيس التحرير بذات الجريدة، كشف لي يوسف عن انتهائه من كتابة سيناريو عملٍ درامي عن حياة الدكتور مصطفى محمود، لكنه لم يخرج للنور بعد، بسبب مشكلات إنتاجية.
عمل بهذا الحجم لا يمكن أن يُنتَج بميزانية متواضعة، فهو ليس مجرد سيرة ذاتية، بل استكشافٌ لمسيرة رجلٍ عاش في أكثر من عصر، تنقل بين الأفكار، وخاض معارك فكرية وروحية، وصنع تأثيرًا لا يزال مستمرًا حتى اليوم.
إن تقديم حياة مصطفى محمود على الشاشة ليس مجرد مشروع فني، بل ضرورة ثقافية، فهو شخصية صنعت وعي أجيال، وتركت بصمةً في الفكر العربي، وهو ما يجعل من مسؤولية الدولة أن تتبنى هذا العمل، ليخرج بالصورة التي تليق بقيمته.
إن العالم اليوم بحاجة إلى إعادة اكتشاف مصطفى محمود، إلى إعادة قراءة أفكاره، إلى رؤية ما وراء حياته، ما وراء كلماته، إلى فهم ما كان يراه هو... وما لم نره بعد.
بقلم /