الحلقة الأولى «فقهاء مروا من هنا»: الليث بن سعد.. عالم بعين الإنصاف
السبت، 01 مارس 2025 03:57 م
محمد الشرقاوي
"أبو الحارث" رفض ولاية مصر.. وأقر فقه الواقع.. ولم تجب عليه الزكاة
سيرة إمام قال عنه كبار علماء أهل السنة والجماعة "أفقه من مالك".. والشافعي أخذ عنه.. وأضاع علمه تلاميذه
ثراء منهجه وسعة علمه لم تشفع في انتشار مذهبه الفقهى لعدم اعتنائه بتدوين فقهه ولم ينهض تلاميذه بجمع آرائه
سيرة إمام قال عنه كبار علماء أهل السنة والجماعة "أفقه من مالك".. والشافعي أخذ عنه.. وأضاع علمه تلاميذه
ثراء منهجه وسعة علمه لم تشفع في انتشار مذهبه الفقهى لعدم اعتنائه بتدوين فقهه ولم ينهض تلاميذه بجمع آرائه
في ركب العلماء الذين أسهموا في بناء الفكر الفقهي عبر العصور، برز الإمام "الليث بن سعد" كواحدٍ من عقول تركت بصمات لا تُمحى، فلم يكن مجرد ناقل للعلم، بل مجتهدًا دؤوباً يقرأ الواقع بعينٍ فاحصة، ويستنبط الأحكام بروحٍ تتجاوز الجمود، في زمن اتسم بالتنوع الفقهي، ليبرز كصاحب مدرسة مستقلة، تقوم على الفهم، والتعمق في النصوص، ومراعاة أحوال الناس، مدفوعاً بمزيج من الحب، والحكمة، والكرم.
وُلد الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي في القرن الأول الهجري، يوم الخميس، لأربع عشرة من شعبان، سنة أربعٍ وتسعين، بقلقشندة، بمصر؛ وفق (التاريخ الكبير للبخاري جـ 7 صـ 246)، (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 524)، في وقتٍ كانت الدولة الإسلامية تشهد ازدهارًا علميًا واسعًا، وكانت مصر - آنذاك – قبلة العلوم، ومركزًا للفكر والتعلم، ما وفر له بيئة خصبة أتاحت له معايشة المذاهب، والتيارات الفقهية، فلم يكن أسير رأيٍ لأحد، بل تتلمذ على يد كبار العلماء، وأخذ عن فقهاء الحجاز والعراق، حتى صار إمام عصره، لم تُشكل السياسة عنده عقبة، بل كانت دافعًا لفهم تعقيدات المجتمع، والتعامل بواقعية مع قضاياه، ما جعله أكثر قدرة على تقديم اجتهادات تلبي احتياجات الناس.
عالم بعين الإنصاف
امتلك "أبو الحارث" - (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 7 صـ 517) - شخصية متزنة تجمع بين العلم والمرونة وسمت الصالحين، فلم يكن متعصبًا لرأيه، بل كان يقبل الحوار، وينظر في اختلاف العلماء بعين الإنصاف، امتاز بذكاء حاد، وقدرة على تحليل المسائل الفقهية وفق ما يناسب الواقع، لم يكن الفقه عنده مجرد أحكام تُنقل، بل علمٌ يخاطب الحياة، ويواكب التغيرات، فقد عاصر مراحل سياسية متقلبة، من حكم الدولة الأموية إلى بداية العصر العباسي، وهو ما أتاح له فرصة التعامل مع مختلف التيارات الفكرية والعلمية، كان نموذجًا في الأخلاق والسخاء، فقد أنفق من ماله على طلابه، وأعان الفقراء، حتى قيل إن الإمام مالك كان يرى أنه أغنى من والي مصر، ليس بماله فحسب، ولكن بعلمه وتأثيره.
تلقى "شيخ الإسلام" العلم عن عدد من كبار العلماء والمحدثين، ما جعله يمتلك قاعدة علمية واسعة شملت الفقه والحديث والتفسير، ولم يقتصر على مدرسة واحدة، بل تنوعت مصادره بين الحجاز ومصر والشام، مما أكسبه رؤية شاملة في الاجتهاد والاستنباط، تتلمذ على عطاء بن أبي رباح، وهو أبرز شيوخه، فقد كان إمام أهل مكة في الفقه، ومن كبار التابعين الذين أخذوا العلم عن الصحابة، خاصة ابن عباس، استفاد من علمه الواسع في فقه العبادات، وخاصة مسائل الحج التي كانت مكة موطنًا لها، كما تلقى عن "ابن أبي مليكة"، أحد المحدثين الثقات، فنقل عنه الكثير من الأحاديث، مما أثرى روايته الحديثية، و"نافع مولى عبدالله بن عمر"، وهو أحد أشهر رواة الحديث، حيث كان ينقل مباشرة عن عبدالله بن عمر، مما أعطى الليث اتصالًا قويًا بالفقه العمري، الذي كان له تأثير واضح على منهجه الفقهي، كما أخذ العلم عن "سعيد بن أبي سعيد المقبري"، أحد أعلام الحديث في المدينة، والذي كان له باع طويل في رواية الحديث عن أبي هريرة وغيره من الصحابة، وكان له اتصال مباشر بمدرسة الحديث في المدينة النبوية من خلال "ابن شهاب الزهري" من بين الأوائل الذين دوّنوا الحديث بشكل منهجي، وهو ما منحه قدرة على الجمع بين الرواية والتصنيف، ما انعكس لاحقًا في طريقته في نشر العلم. كما نهل من علم أبو الزبير المكي، أحد كبار المحدثين في مكة، والذي نقل عن جابر بن عبدالله وغيره.
بحسب (سير أعلام النبلاء 138)، لم تقتصر شيوخه على الحجاز فقط، بل امتدت إلى العراق والشام ومصر، فقد أخذ عن قتادة بن دعامة، أحد فقهاء البصرة، ومن كبار المفسرين والمحدثين، مما منحه اطلاعًا على مدارس الحديث في العراق. كما أخذ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو من أوائل من كتب الحديث في المدينة، وكان له دور في تشكيل منهجية الليث في الرواية.
إلى جانب هؤلاء، تتلمذ الليث على يد مجموعة من العلماء مثل عقيل بن خالد، ويونس بن يزيد، وهشام بن عروة، وأيوب بن موسى، والحارث بن يزيد الحضرمي، وخالد بن يزيد، وصفوان بن سليم، وأبو الزناد، هذا التنوع في مصادر العلم جعله يجمع بين الفقه والرواية، ويكوّن مدرسة متميزة جمعت بين النقل الصحيح والاستنباط الدقيق، ما جعله أحد أئمة زمانه.
وتتلمذ على يد الليث بن سعد عدد كبير من العلماء والمحدثين، الذين نهلوا من علمه ونقلوا رواياته، مما ساهم في انتشار فقهه وأحاديثه عبر الأجيال، ولم يكن تأثيره مقتصرًا على مصر فحسب، بل امتد إلى سائر الأمصار، حيث كان طلابه من مختلف الأقطار الإسلامية، ما جعله أحد أعمدة العلم في عصره.
من أبرز تلاميذه ابن لهيعة، وهو قاضٍ ومحدث مصري، وكان من أوائل من دون الحديث في مصر، مما ساهم في حفظ روايات الليث ونشرها، وهشيم بن بشير، وهو أحد المحدثين المعروفين في العراق، وكان من الثقات في الحديث، فنقل الكثير من الروايات عن الليث، وعبدالله بن وهب، الذي كان من أعلام الفقه والحديث في مصر، وأحد كبار تلاميذ الإمام مالك، وقد حفظ الكثير من أقوال الليث الفقهية ونقلها إلى أهل مصر، وكذلك عبدالله بن المبارك، العالم والمجاهد المعروف، والذي أخذ عن الليث علمه في الفقه والحديث، وكان من أهم رواة الحديث في عصره.
ومن الذين تلقوا عنه العلم أشهب بن عبدالعزيز، الذي كان أحد كبار فقهاء المالكية في مصر، ونقل فتاوى الليث وأقواله في الفقه، خاصة في المسائل التي لم ترد عن الإمام مالك، كما أخذ عنه "القعنبي"، أحد أشهر رواة الحديث، وأحد كبار أصحاب الإمام مالك في الحديث والفقه، وسعيد بن أبي مريم، وهو أحد المحدّثين البارزين في مصر، وكذلك آدم بن أبي إياس، الذي نقل عنه الحديث في بلاد الشام، وأحمد بن يونس، أحد المحدثين المكثرين في العراق، وكان له دور في نشر حديث الليث في تلك البلاد.
لم يقتصر طلابه على الغرباء فقط، بل كان من بينهم ابنه شعيب بن الليث، الذي تلقى العلم عن والده مباشرة، وكان من الناقلين لفقهه ورواياته، كما أخذ عنه العلم يحيى بن بكير، أحد المحدثين المشهورين في مصر، وكان راويةً لحديث الليث في كتب الحديث، وأيضاً من أشهر من نقلوا علمه عبدالله بن عبدالحكم، وهو أحد أعلام الفقه المالكي في مصر، وكان من تلاميذ الإمام مالك أيضًا، وقد حفظ الكثير من أقوال الليث ونقلها. وكذلك منصور بن سلمة ويونس بن محمد، اللذان كانا من المحدّثين الذين نشروا علمه.
كما كان من تلاميذه يحيى بن يحيى الليثي، الذي يُنسب إليه أشهر رواية لموطأ الإمام مالك، وكان أحد رواة الحديث في الأندلس، ما يدل على امتداد تأثير الليث إلى المغرب الإسلامي. ومن تلاميذه أيضًا قتيبة بن سعيد، وهو من كبار المحدثين الذين جمعوا بين الحديث والفقه، وكذلك محمد بن رمح، وعبدالله بن يوسف، اللذان نقلا عنه الحديث في بلاد الشام والعراق. انتشار تلاميذ الليث في مختلف الأمصار الإسلامية ساهم في نقل علمه على نطاق واسع، وحفظ تراثه الفقهي والحديثي، ما جعله أحد الأعلام الذين أثروا في مسيرة الفقه الإسلامي، رغم عدم تدوين مذهبه بشكل مستقل.
إمام الديار الكريم
في حياة عالم الديار المصرية، لم يكن العلم مجرد حلقات تُعقد أو دروس تُلقى، بل كان منهج حياة ينبض بالحكمة والعطاء، ولم يكن يمر يومه كأي يوم، بل لوحة تتداخل فيها ألوان الفقه، والحديث، والإصلاح، والكرم، أربعة مجالس، بأربعة أبواب تُفتح كل يوم، ليعبر منها طلاب العلم، وأهل الحاجة، وأصحاب القضايا، فيجد كلٌّ منهم بغيته بين يديه.
في أول مجلس، كان الليث يُقبل على قضايا الحكم والعدل، فلا يتردد في تصحيح مظلمة، أو تقويم خطأ، أو حتى مراسلة الخليفة إن اقتضى الأمر، فعرف عنه شراسته في الحق، ولم يكن يخشى في الحق لومة لائم، فكلماته كانت تصل إلى أعلى المناصب، وأحيانًا تسقط مسؤولين لم يؤدوا واجبهم كما ينبغي، فكان ميزان العدل لا يميل بين يديه، بل يظل قائمًا، نقيًا من كل شائبة.
ثم يأتي مجلس الحديث، حيث يجتمع إليه طلابه، مستنيرين برواياته، مستمعين إلى دقائق علمه، كان يعرف أن العلم لا يُؤخذ وقلب صاحبه معلّق بشؤونه، فكان يقول: "نجحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم"، فيؤجل لهم الموعد أو ييسر لهم الأمر، حتى لا يُثقل عليهم طلب العلم، ولا تُثقلهم الدنيا عن طلبه، أما مجلس الفقه، فكان ساحة للعقول المتقدة، حيث تُطرح المسائل، وتُناقش الأدلة، ويجتمع فيه العامة والعلماء، كلٌّ يحمل في قلبه سؤالًا، وكلٌّ ينصرف منه بجوابٍ يضيء له طريقه، فلم يكن مجرد فقيه يحفظ النصوص، بل عقلًا نابضًا بالحكمة، ينظر في أحوال الناس، ويفتي بما يحقق العدل والتيسير.
وفي نهاية اليوم، كان يفتح قلبه قبل داره لحوائج الناس، فلا يرد سائلًا، ولا يغلق بابه في وجه محتاج. لم يكن عطاؤه مقتصرًا على المال، بل امتد إلى الطعام والراحة، فكان في الشتاء يُطعم زواره "الهرائس بعسل النحل" وسمن البقر، وفي الصيف "سويق اللوز بالسكر"، كأنما يهبهم الدفء في البرد، والبرودة في الحر، لا عن ترف، بل عن قلبٍ أدرك أن الكرم ليس مالًا فحسب، بل شعورًا يتجسد في كل لمسةٍ يقدمها للناس.
يقول محمد بن موسى الصائغ قال: "سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يومًا فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث! فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم. قال: رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه، فرق وبكى حتى رحمته، وسري عني، وأخذت في صفة الجنة والنار، فرق وبكى حتى رحمته، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السري؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا، فجاءت بكيس فيه ألف دينار، فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحدًا من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها. فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم. قال: لا ترد علي شيئًا أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئًا، فتكلمت، فبكى وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئًا أصلك به. متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة. قال: كأنك فتت عضوًا من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعًا فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكى وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، فإذا ثلاثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوبًا. قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين. فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك".
وقد قيل عنه: كان دخله ثمانين ألف دينار، ولم تجب عليه الزكاة؛ لأنه كان ينفقها ولا يحول عليه الحول وعنده منها دينار واحد، وقد قال عنه الإمام مالك: كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا وثياب جيراننا فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا وبعنا الفضلة بألف دينار.
لا يا أمير المؤمنين
رغم ما كان يتمتع به من مكانة عند الخلفاء، فإنه لم يسعَ إلى تولي المناصب، بل رفضها حين عُرضت عليه. حينما عرض عليه الخليفة أبو جعفر المنصور إمارة مصر، أجابه بقوله: "لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي"، في إشارة إلى كونه ليس من العرب الأقحاح، مما استشعر معه ضعف مكانته السياسية.
ولم يكن رفضه عن عجز، بل عن قناعة بأن خدمته الحقيقية تكمن في نشر العدل والعلم، لا في تولي السلطة. أدرك المنصور ذلك، وقال له: "ما بك ضعف معي، ولكن ضعف نيتك عن العمل في ذلك لي، أتريد قوة أقوى مني ومن عملي؟"، معترفًا بقدرة الليث على الحكم، لكنه لم يكن راغبًا فيه. ورغم رفضه، لم يتخلَ عن دوره في اختيار الأصلح، فاقترح عثمان بن الحكم الجذامي، وهو رجل صالح ذو عشيرة قوية تدعمه، غير أن هذا الترشيح أغضب عثمان حتى أقسم ألا يكلمه بعدها (المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي، جـ 1، صـ 123).
مكانة الليث عند الخلفاء كانت استثنائية، إذ كان موضع احترامهم واستشارتهم. يروي أبو نعيم عن عبدالله بن صالح أن الخليفة هارون الرشيد سأله: "يا ليث، ما صلاح بلدكم؟"، فأجابه بحكمة: "يا أمير المؤمنين، صلاح بلدنا بإجراء النيل، وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي"، مشيرًا إلى أن عدالة الحاكم تنعكس على رعيته، فأعجب الرشيد بجوابه وقال: "صدقت يا أبا الحارث". (حلية الأولياء، أبو نعيم، جـ 7، صـ 322).
ولم يكن احترام الخلفاء مقتصرًا على الاستشارة، بل كان موضع ثقة لديهم، قال يعقوب بن داود، وزير الخليفة المهدي: "قال لي أمير المؤمنين المهدي لما قدم اللَّيْث العراق: الزم هذا الشيخ؛ فقد ثبت عندي أنه لم يبقَ أحدٌ أعلم بما حمل منه". (تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، جـ 14، صـ 524). كما قال أبو جعفر المنصور لليث عند وداعه في بيت المقدس: "أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك" (المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي، جـ 1، صـ 167) رفض الليث للسلطة لم يمنعه من التأثير في الحكام، فقد كان صوتًا للحق والحكمة، مما جعله أحد أكثر العلماء احترامًا وتأثيرًا في عصره.
شيخ ارتقى وضاع علمه
ارتفعت منزلة الليث بن سعد العلمية حتى استقل بالفتوى في زمانه، وحظي بثناء كبار علماء أهل السنة والجماعة، فوردت أقوالهم في حقه في كتب التراجم والسير، كان من مؤلفاته "كتاب التاريخ" و"المسائل في الفقه"، وهما شاهدان على سعة علمه وتنوع معارفه. نال علمه عن تابعي عصره في مصر والحجاز والعراق، حتى قال ابن حجر العسقلاني في "الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية": "إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد"، مما يدل على مكانته كحلقة وصل بين أجيال العلماء، كما ألمّ بفقه أبي حنيفة ومالك، وكان على تواصل دائم مع الإمام مالك عبر المراسلات، ما عزز اطلاعه على المدارس الفقهية المختلفة.
ورأى الإمام الشافعي أن "الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك"، كما أقرّ بذلك بعض معاصريهما، ومنهم سعيد بن أبي أيوب، الذي قال: "لو أن مالكًا والليث اجتمعا، كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكًا فيمن يزيد"، في إشارة إلى تفوق الليث في الفقه، ومع ذلك، لم يُكتب لمذهبه الاستمرار، إذ لم ينهض تلاميذه بجمع آرائه وتدوينها كما فعل أتباع المذاهب الأخرى، حتى قال الشافعي، المتوفى عام 204 هـ، أي بعد ثلاثين عامًا من وفاة الليث: "هو أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به".
وأرجع المفكر المصري أحمد أمين في "ضحى الإسلام" اندثار مذهب الليث إلى عدم اعتنائه بتدوين فقهه، مما جعل آراءه تتبعثر بمرور الزمن، رغم ثراء منهجه وسعة علمه، فلم يصل لأيدينا سوى شذرات مما نُقل من علمه أمثال كتابي "عشرة أحاديث من الجزء المنتقى الأول والثاني من حديث الليث" الذي كان مضمونًا في كتاب "الفوائد" لابن منده و"جزء فيه مجلس من فوائد الليث بن سعد".
وبحسب كتاب "ترشيح المستفيدين بتوشيح فتح المعين في الفقه على المذهب الشافعي" تأليف السيد علوي بن أحمد بن عبد الرحمن السقاف، أن "الشافعى" جاء إلى مصر، ليعلم أهلها، ويطلع على مذهب الإمام الليث بن سعد، وفيها اجتمع إليه علماء مصر وأعيانها، وبقى فيها الإمام حتى وفته المنية، وكان قد اطلع على فقه الإمام الليث ومسائل من فقه الإمام الاوراعي واستفاد منها، وكتب كتبه الجديدة التي اصطلح على تسميتها بالمذهب الجديد.
وذكرت بعض كتب التاريخ والسير وجود مؤلفات ومصنفات للإمام الليث بن سعد، إلا أنّه لم يصل إلينا سوى بعض الرسائل التي كان يتبادلها مع الإمام مالك، وكتابين فقط هما "كتاب التاريخ، وكتاب المسائل في الفقه"، وربما يعود السبب في ضياع مؤلفاته واندثارها كما حدث مع مذهبه إلى عدم اهتمام تلاميذه في تدوين علمه ونشره.