العذاب الثقافي لزعيم مكة

السبت، 15 فبراير 2025 01:00 م
العذاب الثقافي لزعيم مكة
حمدي عبد الرحيم

تتأمل اسمه فتشعر بمهابته، أبو سفيان صخر بن حرب بن أميه القرشي، عندما يتزوج لا يتزوج إلا سيدات زمانه، يكفيك أن تعرف أن هند بنت عتبة واحدة منهن، وعندما يُولد له يكون معاوية ملك الإسلام، الرجل الذي أسس دولة واحدًا من أولاده، يسود قريشًا التي تسود دولة مكة وهو في مقتبل عمره، يتاجر لها ويقود قوافلها ويحمي مصالحها الاستراتيجية، ويجالس هرقل ويتحدث مع كسري ويحارب ثم يفاوض عدوها الأول محمد بن عبد الله.
رجل كهذا يتمتع بالعقل والحكمة والنباهة ترى ما الذي صرفه عن الإسلام؟
في أعماق نفسه كان يعرف أن الإسلام قادم لا محالة وأن محمدًا وأصحابه لن ينكسروا وأنهم عائدون إلى ديارهم الأولى حيث مكة والكعبة التى بفضل وجودها تسود قريش العرب.
مصارحته لنفسه جعلته يغض الطرف عن زواج ابنته أم حبيبة من عدوه محمد، كان يستطيع إرسال فرقة اغتيال تتخلص منها وهي في مهجرها بالحبشة، أبو سفيان التاجر الماهر، تمهل، واتخذ القرار الصائب الذي سيصب في مصلحة دولته مكة، وجود ابنته في بيت عدوه سيقوي مركزه التفاوضي يوم تبدأ المفاوضات.
على الأقل هو سيدخل بيت أبنته ويجلس تحت رعايتها المباشرة.
ولكن ما الذي صرفه عن اغتنام كامل الفرصة والسبق إلي الإسلام حتى يواصل سيادته تحت مظلة رضوان محمد الزعيم القادم لا محالة؟
إنها الثقافة، ثقافة أبي سفيان، هى التى منعته، أبو سفيان لا يستطيع قبول وجود بلال بن رباح أو عمار بن ياسر أو صهيب الرومي بجواره، إنه لا يكاد يراهم، وهم في الوقت نفسه مقربون جدًا من الزعيم القادم.
الزعيم القادم تأمر شريعته بالمساواة الكاملة والتامة والشاملة، شريعة الزعيم القادم لا تري فرقًا بين أبيض وأسود ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، شريعة الزعيم القادم تؤكد: "كلكم لآدم وآدم من تراب".
كل هذا أثقل من جبل أحد على قلب أبي سفيان، مَنْ هؤلاء الذين سيجالسهم ويسمر معهم بل قد يتلقى منهم الأوامر؟
عالم أبي سفيان سيختل عندما تضعه شريعة محمد في كفة وبلالًا في كفة، ثم ترجح كفة بلال!
هل يقف أبو سفيان خلف عمار بن ياسر في الصلاة ويركع خلفه ويسجد خلفه ولا ينهي صلاته قبله؟
كيف يكون هذا؟ ثم مَنْ عمار، بل مِنْ كل هؤلاء؟
إنهم أكبر صفر رآه في حياته، ولكن مهما عظم حجم الصفر فسيظل صفرًا.
إنه لا يصدق أن سادة مثل على بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وسعد بن أبي وقاص و أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يجالسون هؤلاء ويأكلون معهم في طبق واحد، بل يقدمونهم أحيانًا على أنفسهم.
ما الذي حدث لهذا العالم التعس الذي يريد لأبي سفيان نهاية كهذه؟
لا وألف حرب، لا وألف معركة، لا وأنهار من الدم تجري على صحراء الجزيرة، هؤلاء شيء، أما أنا فأبو سفيان.
ثم لم يعد من أمر الله عاصم، وحانت لحظة الحقيقة، بلال وصهيب وعمار أصبحوا قادة وأمراء، وأبو سفيان أصبح لا في العير ولا النفير.
أستسلم أبو سفيان فأسلم ولكن السيد الجديد لم يتركه لشأنه، السيد الجديد معطاء كريم كأنه الريح المرسلة، السيد الجديد لا ينفد حلمه ولا نهاية لصبره، لكنه لا يسمح بأدنى كلمة تقال ضد ثقافته، ثقافة شريعته، إنه يشعل حربًا لو شعر بأن ميزان المساواة شابه اختلال.
دولة السيد الجديد، إعلامها، جيشها، قضاؤها، فقهها، حديثها، تفسيرها، كل الآليات مسلطة فوق رأسي أبي سفيان، لا تخيره إلا بين أمرين، المساواة أو العدم.
أبو سفيان تعذب وهو يغير ثقافته، الريح عاتية والدولة قوية مخلصة لثقافتها، إذن لا مفر.
إن جهاد أبي سفيان في ترويض نفسه على الثقافة الجديدة يستحق التأمل، إنه جهاد مرير لأنه كان يدمر عالمًا قديمًا ليبني عالمًا جديدًا، السيادة فيه لأهل الكفاءة ولأهل التقوى، أما أهل الحسب والنسب فعليهم أن يسابقوا أعمارهم لكي يلحقوا بركب المنتصرين.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة