أوهام استعادة الخلافة
السبت، 04 يناير 2025 04:35 م
الخلافة اختراع بشري فلم يأمر الله ورسوله سوى بالعدل أما غير ذلك فهي تفاصيل تفرضها ظروف الزمان والمكان
راحت السكرة وجاءت الفكرة، ووجد الأشقاء السوريون أنفسهم أمام اختبار الحديد والنار، هم الآن يعيشون الأيام الأولى مع نظام حكم جديد، فكيف سيحكم النظام الجديد، بعيدًا عن شعارات لن تصمد ساعة تحت عين الشمس القاسية الكاشفة.
كثرة من المهتمين بالشأن السوري قالوا: يجب أن يحكم النظام الجديد وفق منهاج الخلافة الراشدة!
لا حول ولا قوة إلا بالله، والله ما أهلكنا إلا هؤلاء الذين يرسلون الكلام إرسالًا، ويغرسون الأمنيات ظنًا منهم أنها ستصبح أشجارًا مثمرة راسخة، فإذ بحقائق الدنيا تجعلها حطامًا.
الخلافة الراشدة، هي نظام بشري، اخترعه بشر يجوز في حقهم الخطأ والصواب، ونظام الراشدين لم يقم به غيرهم، وكان صالحًا لزمنهم ولناس زمنهم، وقد رجعت لكتاب "الفتنة الكبرى" للعميد طه حسين لتحرير هذه المسألة التي ستتحكم في رقاب أمة عظيمة من الناس.
بداية قال العميد: "وأكاد أعتقد أن الخلافة الإسلامية، كما فهمها أبو بكر وعمر، إنما كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة، ولكنها لم تنتهِ إلى غايتها، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلى غايتها؛ لأنها أُجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تُجرى فيه، سبق بها هذا العصر سبقًا عظيمًا، وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشئ نظامًا سياسيًّا يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه!".
ثم حرص العميد على مناقشة طبيعة الحكم في زمن النبوة وفي زمن الخلافة، فنفى بأدلة عقيلة قاطعة كل ما يشيعونه عن الزمنين من أقاويل لا سند لها ولا يقبلها عقل أو نقل.
قال العميد: "يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن نظام الحكم في هذا العهد القصير، قد كان نظامًا ثيوقراطيًّا يعتمد قبل كل شيء وبعد كل شيء على الدين".
الثيوقراطي، هو الدين المحض، بمعنى أن الإله يعترف بأن فلانًا هو الحاكم.
فهل قال الرسول يومًا هذا الكلام؟
لم يقله قطعًا، وكان صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تبادل الرأي مع أصحابه وكثيرًا ما نزل على رأي صحابي حتى لو كان ذلك الصحابي من المغمورين الذين يظهرون في سجلات التاريخ لساعة أو ساعتين، ثم يختفون.
لم يكن حكم النبوة ولا الخلافة الراشدة دينيًا فهل كان ديمقراطيًا؟
لم يكن الحكم ديمقراطيًا، لأن أبسط تعريف للديمقراطية هو حكم الشعب بالشعب للشعب.
وهذا التعريف لم يكن له وجود في زمن النبوة ولا زمن الخلافة، فلم يختر الشعب النبي "ليبلغه رسالات ربه وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل".
ولمزيد من شرح تلك النقطة يقول العميد: "فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، وهم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار".
وقد تكرر الأمر ذاته في استخلاف عثمان وعلي، عليهما الرضوان.
بقي أن نشير إلى نظام حكم الحاكم الفردي العادل، وهذا أيضًا لم يعرفه زمن النبوة ولا زمن الخلافة الراشدة، فلا الرسول ولا الخلفاء حكموا ـ مع عدلهم ـ بمفردهم، فقد كانت هناك دائمًا غرفة مشورة وهيئة أركان.
أمر الحكم كما كان وكما صاغه العميد، كان أمر: "نظام عربي إسلامي خالص لم يُسبق العرب إليه، ثم لم يُقلَّدوا بعد ذلك فيه".
نعم العرب صنعوا نظام حكم لم يكون لأحد من قبلهم، ولم يتمكن أحد من بعدهم من تقليدهم، هو نظام عربي الأبوين والجدين وإسلامي الأبوين والجدين، فكيف تمكن هؤلاء من صنع ذلك النظام الفريق غير المسبوق ولا الملحوق؟
يرى العميد أن النظام قام على أمرين لا ثالث لهما.
الأول هو الدين، أي الإسلام بمعناه الواسع الشامل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويضع العدل في أسمى مكانة.
أما الأمر الآخر فهو تلك الطبقة الممتازة من البشر التي ظهرت بظهور الإسلام، تلك الطبقة هي سلسلة ذهبية، كان أفرادها خير أصحاب لخير نبي.
يصف العميد تلك الطبقة بقوله: "إن هذه الطبقة لم تستأثر من دون الناس بحق من حقوق الدنيا، ولم تجن لنفسها منفعة عاجلة أو آجلة، وإنما آثرها النبي بحبه وأعلن إليها وإلى الناس أن الله قد آثرها بحبه أيضًا وهذه الطبقة لم تكن ترى نفسها أحق بالامتياز ولا أجدر بالاستعلاء، وإنما كانت ترى نفسها كغيرها من الناس، وكان تواضعها نفسه يزيدها حبًّا عند رسول الله، ويرفعها درجات عند الله".
وهكذا نرى أن الخلافة هي اختراع بشري، فلم يأمر الله ورسوله سوى بالعدل، أما غير ذلك فهي تفاصيل تفرضها ظروف الزمان والمكان، فعلى الناس أن تتواضع وتبني بلدها وفق الإمكانيات الحقيقة وليس وفق الأمنيات الوردية.