بوصلة الكاتب
الجمعة، 03 يناير 2025 05:07 م
في ليلة ما شعرت بثقل العالم من حولي، وضعت القلم جانبًا كما يضع محارب سيفه بعد معركة طويلة. لم يكن ذلك استسلامًا، بل كان لحظة مواجهة صامتة، وكأن الكلمات تتحداني لأعيد اكتشافها. الورق الأبيض أمامي لم يكن صفحة فارغة، بل صحراء ممتدة. كلما حاولت أن أكتب، شعرت بأنني أبحث عن واحة بين السراب. ترى، هل الإبداع شعلة لا تنطفئ أم أنه يختبئ أحيانًا خلف ستار الحياة؟
حينما تذكرت كلمات أحمد خالد توفيق: "إن الكاتب عندما يفقد شغفه يبدو كمن أضاع جوهر حياته." شعرت وكأنه يتحدث عني. الورق الأبيض أصبح قاضيًا، وأنا المتهم بالصمت. لكن العالم من حولي لم يكن هادئًا بما يكفي لأسمع صوت أفكاري: أوبئة اجتاحت حياتنا، وحروب تتنقل بين القارات كعاصفة بلا وجهة، وأحداث تكشف قسوة العالم وزيف ما نسميه عولمة. ترى، هل يكفي هذا الصخب لإحياء شرارة الإبداع؟ أم أن الأزمات أحيانًا تسرق منا أكثر مما تعطي؟
في يوم عادي، طلب مني صديق قراءة كتاب "قواعد السطوة" لروبرت جرين. قرأت الكتاب، وإذا بي أمام نص أشبه بمرآة تعكس وجوهًا نراها كل يوم ولا ننتبه لها: النجاح كفنٍ للمكر، والخداع كطريق للهيمنة. شعرت وكأنني أواجه سؤالًا لم أطرحه من قبل: هل يمكن للأدب أن يصبح دليلًا لتبرير الأنانية؟ وإذا كان كذلك، أين يقف الكاتب في هذا العالم المزدحم بالمظاهر، حينما تتحول كلماته إلى وسيلة لتسويغ القبح؟
صوت دوستويفسكي عاد ليهمس داخلي: "أسرار القلوب البشرية ليست سوى انعكاس للعالم من حولها." لكنني لم أستطع تجاهل سؤالًا أكثر إلحاحًا: ماذا لو كان العالم نفسه غارقًا في الزيف؟ كيف يمكن للكاتب أن يحافظ على بوصلة روحه بينما يُحاصره هذا الزيف من كل جانب؟ ربما الكاتب أشبه برسام يحاول أن يرسم شمسًا وسط سماء مليئة بالغيوم. لكن، هل تكفي الكلمات وحدها لإزالة تلك الغيوم؟
بين الكاتب والقارئ، دائمًا ما يقف سؤال يتأرجح بين الأمل والقلق: هل ما نكتبه يعمّق إنسانيتنا أم يسلبها؟ الكتابة ليست مجرد كلمات تُنسج على الورق لتُبهر العين، بل هي نافذة، لا تُطل على العالم فقط، بل تُجبرنا على النظر إلى دواخلنا. وكما قال جبران: "القارئ العظيم يحمل في قلبه كاتبًا أعظم." لكن، هل نملك الجرأة لنحمل تلك البوصلة وسط عالمٍ يغرق في تناقضاته؟
وسط كل هذا الزحام، تظل الكتابة أشبه بمصباح صغير نحمله في طريق مظلم. قد لا ينير كل شيء، لكنه يكفي لنرى أول خطوة. والسؤال: هل نملك الشجاعة لنُكمل السير، أم نرضى بالوقوف على حافة الضوء؟