الاصطفاف الوطني حسم المعركة قبل أن تبدأ

الجمعة، 04 أكتوبر 2024 02:30 م
الاصطفاف الوطني حسم المعركة قبل أن تبدأ
حرب أكتوبر
محمد الشرقاوي

لكي نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا.. المصريون صفاً واحداً.. الشعب رفع شعار "لا انهزام ولا انكسار"
 
كيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة في فترة حالكة ساد فيها الظلام ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء.
 
قبل 51 عاماً كان المصريون على موعد مع التاريخ، يكتبون سجلاته بحروف من ذهب، في نصر عسكري - حرب أكتوبر المجيدة عام 1973- نصر علم البشرية جميعا معنى قوة وصلابة المصريين.
 
أبسط تجسيد على اللحمة الوطنية التي عاشتها مصر، ما قاله الرئيس الراحل محمد أنور السادات (بطل الحرب والسلام)، في خطاب النصر، بقوله: "لست أظنكم تتوقعون مني أن أقف أمامكم لكي نتفاخر معا ونتباهى بما حققناه في أحد عشر يوما من أهم وأخطر، بل أعظم وأمجد أيام تاريخنا، وربما جاء يوم نجلس فيه معا لا لكي نتفاخر ونتباهى ولكن لكي نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله، نعم سوف يجيء يوم نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا في موقعه، وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة في فترة حالكة ساد فيها الظلام ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء...".
 
"كيف حمل كل منا أمانته؟".. هي أصدق الكلمات تعبيراً عن الحالة الوطنية وحمل الأمانة، ليصل الجميع إلى نقطة التحول التاريخية للشعب المصري وللمنطقة بأسرها، إذ نجح المصريون في استعادة كرامتهم بعد نكسة 1967، معززين إيمانهم بأنهم قادرون على تحطيم حاجز الخوف والانكسار؟
 
لقد قاد المصريون هذه المعركة ليس فقط بالسلاح، بل أيضا بتلاحم الشعب مع الجيش والقيادة السياسية. لم يكن الانتصار مجرد نتيجة لحرب مسلحة، بل هو تجسيد لعزيمة لا تلين ووحدة وطنية أضحت رمزًا يُحتذى به في تاريخ الحروب الحديثة. 
 
القارئ للتاريخ يرى أن السياق الوطني والاصطفاف خلف القيادة السياسية تبلور بشكل ملحوظ في الفترة التي سبقت الحرب، وخلال مرحلة حرب الاستنزاف التي كانت خطوة جوهرية نحو إعادة بناء الجيش ورفع كفاءته، فلم يستسلم المصريون،ـ مؤكدين قدرتهم على استعادة مجدهم.
 
ومن واقع سجلات التاريخ جسد المصريون وحدة استثنائية، تلاحم الشعب خلف قواته المسلحة وأبدوا تضحية نادرة في كافة النواحي الاجتماعية – مع العسكرية - في سبيل تحقيق النصر، حيث عمل الجميع، عمالًا أو مزارعين أو ربات بيوت، في جهد مشترك لدعم المجهود الحربي، وانخرطت كافة مؤسسات الدولة في الاصطفاف، ممثلة في رجال الدين والإعلام والفن والرياضيين كل في فلك يدور، يدعم الروح المعنوية، حتى عدى النهار. 
 
ورغم قسوة ظروف الحرب، لم يشهد الشارع المصري أي تراجع في تلاحمه أو دعمه للجيش، بل تراجعت معدلات الجريمة، وندر الطلاق، وامتلأت مراكز التبرع بالدم بالمصريين الذين تسابقوا لتقديم ما يستطيعون من دعم للمقاتلين على الجبهة، هذه الروح الوطنية الجامعة تجسدت في كل فرد، حيث أدرك الجميع أن النصر لا يتحقق إلا بوحدة الهدف والعمل المشترك.
 
وترجع مسألة تراجع معدل الجريمة وقت حرب 73 للعديد من العوامل النفسية والاجتماعية للشعب المصري الذى تظهر فيه بشكل واضح  قيم التضحية والإثار والتسامح  فى الشدائد والأزمات، وهو ما كشفت عنه إحصائيات وتقارير وزارة الداخلية، التي سجلت عدم وجود بلاغات أو محاضر لمدة 3 شهور قبل الحرب وبعدها، واكتملت المدة حتى منتصف نوفمبر، بل تراجعت فى حرب أكتوبر 73 نتيجة الشعور بالحس الوطنى لدى المصريون بضرورة تغييب المصلحة العامة وتجميد الخلافات الشخصية، ولذلك كانت المجالس العرفية داخل الأحياء والقرى تحل النزاعات القائمة، فلم تسجل حالة سرقة واحدة رغم أن أصحاب المحلات كانوا يتركون محلاتهم فى العراء دون حراسة فى أوقات الغارات لتكاتف الشعب.
 
وحقق المصريون في حرب أكتوبر انتصارًا عسكريًا واستراتيجيًا كبيرًا، لكن الأهم كان انتصار الإرادة الوطنية والتلاحم الشعبي، وكسر الجيش حاجز الخوف الذي أوجده العدو بعد نكسة 1967، وأثبت للعالم أن الشعب المصري لا يعرف الهزيمة أو الاستسلام، كانت معركة الكرامة والاستقلال، وحلقة مضيئة في تاريخ مصر الحديث، إذ أظهرت للعالم أن المصريين قادرون على تحقيق المستحيل إذا ما توحدت إرادتهم خلف قيادتهم.
 
انتصر المصريون من قبل يوم السادس من أكتوبر، فالعدو الصهيوني اعتمد بعد هزيمة يونيو 1967 على فكرة استسلام المصريين وقبول قيادتهم للهزيمة، والدليل تصريحاته المشبعة بالغطرسة والاستهزاء بقدرة مصر على إعادة بناء قواتها أو الدخول في مواجهة جديدة، مؤكدين أن المصريين سيحتاجون لمائة عام قبل أن يفكروا في مواجهة إسرائيل مرة أخرى، لكن من قلب تلك الهزيمة، بدأ الشعب المصري في التمسك بقائده ورفض الرضوخ للأمر الواقع، فظهرت إرادة النصر من جديد في وقت وجيز.
 
في العلوم العسكرية، لا يتحقق النصر فقط في ساحات القتال، بل يبدأ من الداخل، من خلال وحدة وصمود الشعب، والمعروفة بقوة الجبهة الداخلية، فالشعب المصري، وفي لحظة مفصلية، فاجأ العدو كما فاجأ العالم برفضه للهزيمة، مؤكدًا عزمه على استرداد أراضيه، وهذا الإصرار الشعبي والتضحية التي قدمها الجميع لا تقل أهمية عن مفاجأة العبور في 6 أكتوبر 1973.
 
كان الشعب المصري بأكمله، من 32 إلى 34 مليون نسمة، هو الدعامة الأساسية لجيشه بكل ما يملك، ورسالة المصريين كانت واضحة: نحن خلفكم، مستعدون لتحمل كل التضحيات، مهما كان الثمن، بهذه الوحدة، تحقق النصر الكبير بفضل قوة الجيش المدعوم من شعبه، وشعب يعتمد على جيشه.
 
وأظهرت الحرب أصالة المصريين وترابطهم، الجميع كانوا كتلة واحدة، يضحون من أجل بعضهم البعض. مصر كانت حاضرة في قلوبهم وأفكارهم، ولم تصدر أي شكوى بشأن الغارات أو أصوات صفارات الإنذار، حتى مع استشهاد المدنيين في المصانع والحقول والمدارس، أو نقص الخدمات والتموينات، لم يشعر المصريون بالضيق من تلك الحياة الصعبة، بل بالعكس، تحمل الجميع فوق طاقتهم، مؤمنين بإرادتهم في النصر. تقاسم المصريون الطعام والموارد، وتجسدت قيم التضامن والإخاء بشكل لافت بينهم.
 
وأحد أبرز مفاجآت تلك الفترة كان استجابة المصريين الفورية للتبرع بكل ما يمتلكون لدعم المجهود الحربي، انهالت التبرعات من كل أنحاء البلاد، وشملت أموالاً وذهبًا، بهدف تعويض خسائر الجيش وإعادة بناء قواته من جديد.
 
وأظهرت حرب أكتوبر للعالم أن تلاحم الشعب مع قيادته هو أحد أهم العوامل التي تساهم في النصر، وأثبتت أن القيادة الحكيمة والتخطيط الاستراتيجي مع دعم شعبي قوي قادران على تغيير مجريات الأحداث في أي معركة مهما كانت التحديات. 
 
وخلال الحرب بدأ الشعب في التعبئة الشاملة لدعم الجيش في معركته، واستخدم المصريون جميع الوسائل الممكنة لتقديم الدعم، عبر التبرعات بالمال أو بالدم، وتوفير السلع والمواد الغذائية للمقاتلين، واقتسموا مواردهم وأظهروا صبرا وتحملًا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضتها الحرب. 
 
ولعبت القوى الناعمة دورا مؤثرا في تعزيز الروح الوطنية والوقوف خلف القيادة السياسية. كانت الفنون، وعلى رأسها الأغاني الوطنية، من أبرز الوسائل التي عززت الشعور بالانتماء والوطنية في صفوف الشعب، فقد قدمت الأغاني رسائل دعم وتشجيع للمقاتلين وأثرت في معنويات الشعب، كما قامت الأعمال الدرامية بتوثيق هذه المرحلة التاريخية، وأسهمت في تعزيز الوعي الوطني وتعريف الأجيال اللاحقة بقيمة التضحية التي قدمها المصريون. 
 
ولم يقتصر الدور الثقافي والفني على تعزيز الروح الوطنية، بل كان الدين حاضرا بقوة، حيث تضافرت جهود رجال الدين في تقديم الرسائل الروحية التي بثت في الشعب الأمل والثقة بنصر الله، وجاءت شعارات مثل "الله أكبر" لتكون بمثابة الدعامة النفسية والمعنوية التي ارتكز عليها المقاتلون في الجبهة. وكان لارتباط الحرب بشهر رمضان المبارك دلالة قوية في تعميق الروح القتالية والتضامن بين جميع أفراد المجتمع المصري. 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق