«دار الإفتاء» توضح حكم صيام يوم مولد النبوى شكرا لله

الخميس، 12 سبتمبر 2024 03:15 م
«دار الإفتاء» توضح حكم صيام يوم مولد النبوى شكرا لله
منال القاضي

أوضحت دار الافتاء المصرية خلال اجابتها على سائل يقول ، اعتدت صيام يوم المولد النبوي الشريف شكرًا لله تعالى على هذه النعمة العظمى؛ فما حكم الشرع في ذلك؟
 
الجواب
يوم مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو يوم تفضل الله تعالى به على العالمين بإيجاد خير الأنام، فاستحق لذلك مزيد فضل واعتناء وإظهار أبلغ معاني الشكر والثناء لله تعالى بالإكثار من الطاعات والقربات التي من أَجَلِّها قربة الصيام، كما استحق إظهار ما لهذه النعمة من أثر في النفوس من السعادة والسرور والحفاوة والاحتفاء والاحتفال؛ إذ يزيد فرح المؤمن بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم على فرحه بأيِّ حدث وبكل عيد.
 
وما اعتدته -أيها السائل- من صيام يوم المولد النبوي الشريف يُعَدُّ أمرًا مشروعًا، وفعلًا حسنًا، وهو من شكر المُنعِم على إنعامه، والمُحسِن على إحسانه، وهو أيضًا اقتداءٌ وتأسٍّ بأصل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يخص يوم الإثنين وهو يوم مولده الشريف بالصيام.
 
 
أقوال العلماء في تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
 

نصَّ جمهور العلماء على أنه يُنْدَبُ تعظيم يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراز الشكر له؛ وذلك بصيامه والإكثار مِن الذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن ونحو ذلك من مظاهر الشكر والتعبد لله احتفاءً بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما جرى عليه عمل أهل الأمصار.
 
فحكى مفتي مكة المكرمة قطب الدين النهروالي الحنفي [ت: 990هـ] في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" (ص: 196، ط. العامرة العثمانية) عملَ أهل مكة في زيارة موضع ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة المولد المحمدي؛ فقال: [ويُزار في الليلة الثانية عشر من شهر ربيع الأول كل عام، فيجتمع الفقهاء والأعيان على نظام المسجد الحرام والقضاة الأربعة بمكة المشرفة بعد صلاة المغرب بالشموع الكثيرة والمفرغات والفوانيس والمشاعل، وجميع المشايخ مع طوائفهم بالأعلام الكثيرة، ويخرجون من المسجد إلى سوق الليل، ويمشون فيه إلى محل المولد الشريف بازدحام.. ويأتي الناس من البدو والحضر وأهل جدة وسكان الأودية في تلك الليلة، ويفرحون بها، وكيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف لا يجعلونه عيدًا من أكبر أعيادهم] اهـ.
 
ثم ردَّ على المنكرين على ذلك تحت دعوى أنَّ ذلك لا يصحّ شرعًا وأنه بدعة لم تُحْكَ عن السلف؛ بأنه: [بدعة حسنة، تتضمن تعظيم النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر والدعاء والعبادة وقراءة القرآن، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضيلة هذا الشهر العظيم؛ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله عن صوم يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ»، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي هو فيه، فينبغي أنْ يحترم غاية الاحترام؛ ليشغله بالعبادة والصيام والقيام، ويُظهِرَ السرور فيه بظهور سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام] اهـ.
 
وقال الإمام ابن الحاج المالكي في "المدخل" (2/ 2-3، ط. دار التراث): [وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به مِن العبادات التي تُفْعَل فيها؛ لِمَا قد عُلِمَ أنَّ الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها، وإنما يحصل لها التشريف بما خُصَّتْ به مِن المعاني، فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى ما خص الله تعالى به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أنَّ صومَ هذا اليوم فيه فضلٌ عظيم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم وُلد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أنْ يُكَرَّمَ ويُعَظَّمَ ويُحْتَرَمَ الاحترام اللائق به؛ وذلك بالاتباع له صلى الله عليه وآله وسلم في كونه عليه الصلاة والسلام كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات] اهـ.
 
وقد ساق كلامه على عمل المولد: الحافظ السيوطي الشافعي في رسالته "حسن المقصد في عمل المولد" المتضمنة في "الحاوي للفتاوي" (1/ 226-229، ط. دار الفكر)، والعلامة الصالحي في "سبل الهدى والرشاد" (1/ 371-372، ط. دار الكتب العلمية)، وصدَّرا ذلك بالثناء عليه بقولهما: [وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه "المدخل" على عمل المولد، فَأَتْقَنَ الكلام فيه جدًّا] اهـ.
 
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: 95-96، ط. دار ابن حزم): [وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن صيام يوم الإثنين: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وأُنْزِلَت عَلَيَّ فيه النُّبُوَّة» إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده، فإنَّ أعظمَ نعم الله على هذه الأمة: إظهارُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وبعثته وإرساله إليهم؛ كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، فإنَّ النعمة على الأمة بإرساله، أعظمُ مِن النعمة عليهم بإيجاد السماء والأرض والشمس والقمر والرياح والليل والنهار وإنزال المطر وإخراج النبات وغير ذلك.. فصيام يوم تجددت فيه هذه النعم مِن الله على عباده المؤمنين: حسن جميل، وهو مِن باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر، ونظير هذا: صيام يوم عاشوراء حيث أنجى الله فيه نوحًا مِن الغرق، ونجى فيه موسى وقومه مِن فرعون وجنوده وأغرقهم في اليم؛ فصامه نوح وموسى شكرًا لله، فصامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متابعةً لأنبياء الله، وقال لليهود: «نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، وصامه وأمر بصيامه] اهـ.
 

وانطلاقًا من تلك المعاني السالف بيانها: ذهب بعض فقهاء المالكية إلى كراهة الصوم فيه؛ تغليبًا لمعنى العيد فيه، وما يلازمه من الفرح والسرور، ويقترن به مِن أنَّ يومَه يومُ أكل وشرب.
 
 
وقال الإمام الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 241، ط. دار الفكر): [وَكَرِهَ بعضٌ صَوْمَ يوم المولد؛ أَيْ: لأنه من أعياد المسلمين] اهـ.
 
وقال العلَّامة الدسوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 518، ط. دار الفكر): [مِن جملة الصيام المكروه كما قال بعضهم: صوم يوم المولد المحمدي؛ إلحاقًا له بالأعياد] اهـ.
 
ولا يَخْفَى أنَّ تخصيص يوم المولد النبوي الشريف بإبراز مظاهر الاحتفال والاعتناء بما يلزم لذلك من الزينة والسرور هو أمرٌ حسنٌ شرعًا ومطلوبٌ عادةً وعرفًا؛ فنقل الإمام المؤرخ الصالحي في كتابه "سُبُلُ الهُدى والرشاد في سيرة خيرِ العِباد" (1/ 363، ط. دار الكتب العلمية) عن الإمام الشيخ أبي موسى الزرهوني -وكان من الصالحين-: [أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، فشكا إليه مَن يقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن فرِح بنا فَرِحنا به»] اهـ.
 
قال الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (1/ 23، ط. دار الهدى) في بيان الحسن من البدع: [فالبدع الحسنة متفق على جواز فعلها والاستحباب لها ورجاء الثواب لمَن حسنت نيته فيها.. ومِن أحسن ما ابتُدِع في زماننا من هذا القبيل: ما كان يُفعَل بمدينة إربل -جبرها الله تعالى- كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإن ذلك -مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء- مشعرٌ بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله] اهـ.
 
ولا يُستشكل على القول بالكراهة في هذا المقام بما توارد من النصوص التي تستحسن صيامه؛ إذ يصحّ قياسه على الخلاف الوارد في صيام يوم عرفة الذي يُندب صيامه لمَن لم يحظ بمحفل الوقوف والاجتماع في عرفة، ويكره صيامه لمَن حظي بذلك الموقف الشريف.
 
قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 173) في وجه تسمية يوم عرفة "عيدًا": [وقد جاء تسميته "عيدًا" في حديث مرفوع خرجه أهل "السنن" من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»، وقد أشكل وجهُه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلّ على أن يوم عرفة يوم عيد لا يصام كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيام التشريق فيشارك أهلُ الأمصار أهلَ الموسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نسكهم؛ هذا قول جمهور العلماء. وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الموسم، فلا يُنهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصح] اهـ.
 
بل يوم المولد النبوي الشريف أَوْلى من يوم عرفة بالحظوة والتشريف؛ لتعلقه بخير البرية صاحب الشريعة وسيد الخلائق والخليقة صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ومقتضى ما سبق، وبحسب ما بيَّنَّاه في توجيه قولَي الفقهاء في حكم صيام يوم المولد النبوي الشريف: يظهر إمكان الجمع بينهما، وهو الأَوْلى من ترجيح أحدهما؛ لما تقرر في قواعد الشرع أنَّ "الْجَمْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّرْجِيحِ"؛ كما في "إرشاد الفحول" للإمام الشوكاني (1/ 401، ط. دار الكتاب العربي)، وأنَّ "إِعْمَالَ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِهِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية)؛ فإذا ما صار من عادة الناس أن يجتمعوا للاحتفال بهذا اليوم ويُعِدوا لأجل ذلك صنوف الطعام والحلوى والشراب ويدعو بعضُهم بعضًا إلى المآدب؛ إظهارًا للفرح الغامر بنعمة استهلاله، وإبرازًا للسعادة المقبلة في إقباله: كُره الصيامُ لمَن يُدعى لمثل هذا الاحتفال أو يحضره.
 
بخلاف ما لو اعتاد بعض الناس على صوم هذا اليوم تأسيًا بصوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم مولده شكرًا واجبًا لله تعالى على نعمة إيجاده، أو كانت الدعوة إلى طعام الإفطار للصائمين: فإنه يستحسن حينئذ الصوم؛ فهذا مقام الشكر، وذاك مقام الفرح، وكلاهما معتبرٌ شرعًا.

الخلاصة
بناءً على ذلك: فإنَّ يوم المولد النبوي الشريف هو يوم تفضل الله تعالى به على جميع الأنام بإيجاد خير الأنام، فاستحق لذلك مزيد فضل واعتناء وإظهار أبلغ معاني الشكر والثناء لله تعالى بالإكثار من الطاعات والقربات التي من أَجَلِّها قربة الصيام، كما استحق إظهار ما لهذه النعمة من أثر في النفوس من السعادة والسرور والحفاوة والاحتفاء والاحتفال؛ إذ يزيد فرح المؤمن بمولده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم على فرحه بأيِّ حدث وبكل عيد.
 
وفي واقعة السؤال: ما اعتدته من صيام يوم المولد النبوي الشريف يُعَدُّ أمرًا مشروعًا، وفعلًا حسنًا، وهو من شكر المُنعِم على إنعامه، والمُحسِن على إحسانه، وهو أيضًا اقتداءٌ وتأسٍّ بأصل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يخص يوم الإثنين وهو يوم مولده الشريف بالصيام.
 
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق