دراما مسرور ومقرور

السبت، 31 أغسطس 2024 12:22 م
دراما مسرور ومقرور
حمدى عبد الرحيم


باغت الأستاذ أحمد بهجت الوسط الأدبى مقدما النوفيلا العجيبة مسرور ومقرور التى اعتمد فى كتابتها على المادة القرآنية ولا شىء غيرها

كان الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهجت (15 نوفمبر 1932 – 11 ديسمبر 2011)، إذا رمى أصاب، فقد كتب المقال والقصة القصيرة والبورتريه، وكتب لسنوات البرنامج الإذاعى الشهير (كلمتين وبس)، وكتب للسينما فيلم (حياة السادات)، وقد تفرد الأستاذ أحمد بقدرته على أن يضع فى زاويته (صندوق الدنيا) ما شاء من فنون الكتابة، محكمًا قبضته على مادته، التى يقدمها إلى قارئه فى أوضح معنى، وبأقل عدد ممكن من الكلمات.
 
وقد باغت الأستاذ أحمد الوسط الأدبى مقدمًا النوفيلا العجيبة (مسرور ومقرور)، التى اعتمد فى كتابتها على المادة القرآنية، ولا شىء غيرها، فكل الأحداث والحوارات، أخدها من القرآن الكريم.
 
فى المقدمة، التى قدم بها لروايته القصيرة، كتب الأستاذ أحمد: «هذه ليست رواية، إن الرواية، تبدأ بالحياة، وتنتهى بالموت، هذه اللا رواية، تبدأ بالموت، وتنتهى بالبعث، وتستمر أحداثها حتى نقف وراء أبواب الجنة والنار.
 
هذه اللا رواية ليست سوى الهيكل العظمى أو الخطوط الرئيسية لرواية لم تكتب بعد، وإن كنت أنوى كتابتها، إن منح الله الجهد، وشاء أن يكون فى العمر بقية».
الذى يقرأ الرواية القصيرة، هادئ النفس، سيعلم أن الأستاذ بهجت، قد ظلم روايته عندما وصفها باللا رواية.
 
هى وفق التعريف الأوروبى رواية مكتملة الأركان، تنتمى لقالب النوفيلا.
 
التحدى كان كبيرًا أمام الأستاذ بهجت، رحمه الله، فكيف يكتب إنسان عن حياة لم يعشها، وكل علاقته بها جاءت من نصوص مقدسة!
ضربة البداية، نفذها الأستاذ بهجت ببراعة، ففى سطور قليلة، قدم لنا بطليه، مسرور ومقرور.
مسرور طاغية قديم لدولة وثنية قديمة، مقرور فقير مسكين، كان قاطع طريق، حاز ثروات ضخمة، وذاق كل شهوات الحياة، ثم ندم وتاب، وهو الآن، يسكن كوخًا حقيرًا، لا يمتلك من الدنيا شيئًا حتى النعل، فهو يعيش حياته حافيًا!
أى خطر يمثله مقرور على الحاكم؟
فقير لا يملك نعلًا، هل له أن يهدد حاكمًا؟
شاع عن مقرور، أنه يكثر من قول «لا إله إلا الله».
هنا بدأ الخطر، وبدأت كوارث المواجهة.
مسرور وثنى، يؤمن بتعدد الآلهة، فكيف يجرؤ صعلوك على أن يفرد إلهًا بالتوحيد؟
أمر مسرور بالقبض على مقرور، جاءوا به حافيًا، دخل مقرور قصر الحكم خجلًا من عدم امتلاكه لنعل يحمى قدميه.
كان ملأ مسرور حوله، يقودهم رئيس الشرطة، وقاضى القضاة، سأل مسرور مقرورًا: هل تؤمن بإله واحد؟
رد: نعم.
قال مسرور: هذه جريمة عقوبتها الإعدام حرقًا.
قال قاضى القضاة: مسرور محق، والله واحد أحد.
سقوا قاضى القضاة، كأس سم، فمات على الفور.
أخذوا مقرور إلى الزنزانة، لتنفيذ حكم الإعدام، كان مسرور، يشرب خمرًا، ويهم بمداعبة جارية من جواريه، عندما قبض ملك الموت روحه.
قدموا مقرور إلى المحرقة، حضر ملك الموت، وقال له: لا تخف النار، ستموت قبل أن تمسك.
سأله مقرور فى لهفة: هل قبل الله توبتى؟
لم يجبه المَلَك، ولكن حواسه استقبلت عبق الريحان. تهاوى ميتا، وهو يتأمل جمال وجه الملك الكريم.
الآن، الاثنان، فى موقف واحد، لا حول لهما ولا قوة، الحاكم والصعلوك، فى جوف القبر.
كان مسرور، يظن أن الموت هو نهاية الإحساس، ولكنه الآن يكتشف أنه يرى ويحس. فوجئ بملكين فى قبره يجلسانه ويسألانه: من ربك؟
فوجئ بالسؤال، وعاد الملك يسأله: ما دينك؟ من نبيك؟ لم يرد بشىء، وإنما عقد الخوف لسانه. نظر أمامه، فشاهد بؤرة من النار المشتعلة، فتجمد دمه من الرعب.
أما مقرور فقال ربى الله، خالق كل شىء، أنا على دين جميع الأنبياء. مسلم أنا.
ابتسم الملكان، وقالا: انظر أمامك. نظر فرأى حديقة خضراء وقصرًا عظيمًا. قال الملَك ووجهه يزداد نورا: هذا أحد قصورك فى الجنة. سأله مقرور: هل معنى هذا أن الله قبل توبتى؟ لم يجبه المَلَك، وقال: عد إلى الموت بأمر الله.
كل ما سيأتى، سيمثل تحديًا للأستاذ بهجت، إنه سيصف يوم القيامة، لا مصدر سوى القرآن الكريم، وهو بين أيدينا جمعيًا، وآيات القيامة أشهر من أن يشير إليها أحد، ولكنه التدبر، وهذا لسنا جميعًا فيه سواء.
 
نقرأ وصف الأستاذ بهجت لحال العالم يوم القيامة: «بدأ البحر ينفجر، إن كل ذرة من ذرات مياهه، وكل نُواة من نُويات ذراته كانت تنفجر. اقترب الحشد البشرى من الجبال، اقتلعت يد القدرة الخفية الجبال من مكانها، ورفعتها أمام هذا الحشد الهائل، وارتفعت الرءوس، تنظر إلى الجبال، وراحت الجبال تمر مر السحاب، ثم بدأت تنفجر انفجارات متتالية، وتحولت الجبال إلى شىء يشبه الصوف المنفوش، الذى تحول إلى دخان، لم يلبث أن تبدد، صارت الأرض قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، استوت الأرض حين نسفت الجبال، فلم يعد فيها انخفاض، ولا بروز، ولا ميل، ولا تعرّج، هى امتداد واحد مستو مخيف».
 
بعد طول انتظار حكم على مسرور بالخلود فى النار: «كانت النار تشتعل فى ملابسه القطرانية، وتشتعل فى جلده، وتحرق دمه وأعصابه، فيصرخ، ثم يمتد إلى عظامه، فيئن، ويزداد صراخه، ثم تأتى النار على كل شىء، فيحس أنه يموت، قبل أن يموت، يفاجأ أن جِلْده يعود من جديد، وأن لحمه وعظامه وأعصابه، تعود للحياة من جديد، ليبدأ العذاب دورته مرة أخرى. كان الذهب الذى كنزه فى الحياة الدنيا، قد تحول هنا إلى سلاسل هائلة، تحمى فى النار، ثم يقيد بها، وتنصهر فتكوى جنبه وظهره وصدره».
 
قاضى القضاة ومقرور فى روضات الجنات، ومسرور وفريقه فى السعير، هل هرب أحد من الحساب؟
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة