درس فى تربية القلوب
السبت، 24 أغسطس 2024 02:27 م
لا يعفو إلا قادر كريم النفس عظيم القلب ولقد كان رسولنا أكرم الناس نفسا وأعظم الخلق قلبا
كان أُمية بن خلف الجمحى، لا يكره شيئا قدر ما يكره الإسلام ورسوله، وكان رجلا فظا قاسيا، وكان يستغل مكانته فى قريش فى التنكيل بأصحاب رسول الله، وما عرف المسلمون الراحة منه إلا بعد هجرتهم إلى المدنية المنورة، ثم لما كانت غزوة بدر الكبرى وجدوا أمية بن خلف بين قواد جيش قريش، فاجتمع عليه نفر من الصحابة يقودهم مؤذن الرسول بلال بن رباح فقتلوه.
بمقتل أمية برز دور ابنه صفوان، الذى كان من سادة قريش المعدودين، وكان من كبار تجار السلاح فى مكة، وبمقتل والده تحول الثأر العام إلى ثأر شخصى!
كان صفوان يعرف أن قريشا لن تتجاهل هزيمتها، وأنها ستذهب إلى جولة جديدة مع الرسول، ولكنه لم يصبر، فجلس يوما مع ابن عمه عُمير بن وهب الجمحى، ليبحث معه فى كيفية الانتقام من الرسول.
قال عمير لصفوان: عندى عيال وعلىّ ديون!
قال صفوان: سأتحمل عنك نفقة عيالك وسأقوم بسداد ديونك، مقابل رأس محمد!
بالفعل توجه عمير إلى المدنية المنورة، ووصل إلى مجلس الرسول، فباغته الرسول وقص عليه قصة المؤامرة التى جرت بينه وبين صفوان فى حجر الكعبة المشرفة!
أدرك عمير فى لحظة هداية أنه يقف الآن أمام معجزة، فلو كان محمد ساحرا أو شاعرا ما كان سيعرف تفاصيل مؤامرة لم يحضرها إلا هو وابن عمه صفوان، فسارع إلى القول: «أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام».
مكث صفوان ينتظر عودة ابن عمه برأس محمد على أحر من الجمر، ولكن القادمين من المدينة أخبروه أن عميرا قد أسلم وأصبح واحدا من أصحاب محمد.
مشاعر الثأر تتفاقم وتتراكم، لقد خسر صفوان والده زعيم قريش، ثم خسر ماله الذى أنفقه على عيال ابن عمه وعلى سداد ديونه، ثم ها هو يخسر ابن عمه الذى أصبح من أنصار محمد!
مرت ست سنوات على غزوة بدر والكراهية تأكل قلب صفوان أكلا، ثم فتح الله مكة لرسوله وللمسلمين.
كان الرسول قد أهدر دم نفر من مكة، لم يكن صفوان من بينهم، والعجيب أن معظمهم لم يقتل بل أسلموا وحسن إسلامهم وقد عفا عنهم الرسول.
سيطرة المسلمين على مكة ثم إسلام الأغلبية الكاسحة من قريش، جلعت صفوان يرتجف خوفا، ففر إلى الساحل ليصعد إلى مركب قاصدا اليمن.
عرف عمير أن ابن عمه فر، فتوجه إلى مجلس الرسول وقال للرسول: يا نبى الله إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه فى البحر.
فرد الرسول: هو آمن.
قال عمير: يا رسول الله أعطنى آية يعرف بها أمانك.
فأعطاه رسول الله عمامته التى دخل فيها مكة.
غادر عمير مجلس الرسول ومعه العمامة وتوجه إلى الساحل فلحق بابن عمه فقال: يا صفوان: فداك أبى وأمى! الله الله فى نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئتك به.
كان خوف صفوان هو المسيطر عليه فلم يقنعه شىء من كلام ابن عمه، ولكن ابن العم كرر العرض مرات، حتى لان قلب صفوان، فقبل الذهاب إلى الرسول.
قال صفوان للرسول: إن هذا يزعم أنك أمَّنتنى.
رد الرسول: صدق.
قال صفوان: فاجعلنى فى الخيار شهرين.
رد الرسول: أنت فى الخيار أربعة أشهر.
هذه اتفاق لا يحلم به أحد فى مثل حالة صفوان من الضعف والهوان والوحدة، فهو يريد البقاء على كفره وقد أسلم كل أهله شهرين، فيمد الرسول له فى الفترة ويقول له: كن كما تريد لأربعة أشهر!
بعد فتح مكة كانت غزوة حنين، هنا احتاج المسلمون لصفوان الذى بقى على كفره، فكما أسلفنا كان صفوان تاجر سلاح، والمسلمون كانوا يحتاجون إلى سلاحه.
كان صفوان ضعيفا خائفا وقد أصبح الكافر الوحيد فى كل مكة، ولذا كان من السهل على المسلمين مصادرة سلاحه، ولكن الرسول القائد، لم يذهب إلى المصادرة بل اختار أن يستأجر السلاح من صفوان بثمن.
خرج صفوان مع جيش الإسلام الذى سيجاهد فى حنين، طبعا لم يشارك فى القتال، فهو على كفره، كان خروجه لكى يرعى سلاحه!
انتهت الغزوة بانتصار ساحق للمسلمين، هنا وقف صفوان يتحسر، فليس له أن يطلب من المغانم الكثيرة جدا أى شىء.
شاهده الرسول وهو يقف ينظر إلى شِعْبٍ من شِعاب حُنين، قد مُلِئ إبلا وشياه، وقد بَدَتْ عليه علامات الانبهار والتعجُّب من كثرة الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم فى رِقَّة: أَبَا وَهْبٍ، يُعْجِبُكَ هَذَا الشِّعْبُ؟
قال صفوان: نَعَمْ.
فقال له الرسول: هو لك وما فيه.
هذه المفاجآت المذهلة جعلت صفوان يقول: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبى، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
لقد أسلم صفوان بن أمية بن خلف، فى تلك اللحظة الخالدة، ثم روى سرها: والله لقد أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطانى، وإنه لأبغض الناس إلىّ، فما برح يعطينى حتى صار أحبَّ الناس إلىّ.
حسن إسلام صفوان وعاش عمرا فى الإسلام، وتولى قيادة فرقة عظيمة من جيش الإسلام فى معركة اليرموك، وتوفى رضى الله عنه فى أوائل خلافة معاوية بن أبى سفيان.
وبعدُ فلا يعفو إلا قادر كريم النفس عظيم القلب، ولقد كان رسولنا أكرم الناس نفسا وأعظم الخلق قلبا.