التركة الثقيلة و«حروب الظل في إقليم مضطرب».. 2
الأربعاء، 21 أغسطس 2024 06:08 م
قبل جفاف مداد سطور مقالنا الأول حول التقارب المصري الصومالي، وتوقيع اتفاق دفاع مشترك بين البلدين، ورفض القاهرة أي تدخل في شؤون الصومال، ودور إسرائيل غير المعلن في توظيف معاول إقليمية هدَّامة، لتفتيت الدول وتمزيق سيادتها الوطنية؛ تواترت ردود أفعال «قوى الشر»، وسعت إلى عزل علاقات دولة مصب النيل عن إحدى الدول الأهم في القرن الأفريقي، وهو ما يؤكد جدية وشراسة «حروب الظل» في إقليم مضطرب.
وفيما اتهم الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إثيوبيا صراحة بـ«رفض الاعتراف بالصومال دولة ذات سيادة»، استهدفت العاصمة مقديشيو عملية إرهابية، أسفرت عن مقتل 11 شخصًا، فضلًا عن عشرات المصابين. ويبدو أن التصعيد الإثيوبي والقائمين عليه من وراء حجاب ضد الصومال، لن يتوقف هو والعمليات الإرهابية في مقديشيو وغيرها، وقد يترشَّح الواقع المأزوم من الأساس إلى مزيد من التفاقم في الصومال ومحيطه.
في ظل هذا الحراك، لاسيما بعد القمة المصرية الصومالية الأخيرة في القاهرة، انطوت الاستراتيجيات الإقليمية المعادية على عدة أهداف، يتعلق أولها بالصومال عبر إحياء مشروع «التقسيم الجغرافي الأوروبي القديم» للدولة الصومالية، وبموجبه يتم إعادة طرح ما كان يُعرف بـ«الصومال الإيطالي»، الذي هيمنت عليه بريطانيا لاحقًا بعد الهزيمة الإيطالية في الحرب العالمية الثانية؛ ثم إقليم «صوماليلاند»، أو ما كان يُعرف بـ«الصومال البريطاني»، الذي احتلته المملكة المتحدة حتى استقلال الصومال عام 1960؛ وإقليم بـ«الصومال الفرنسي»، الذي تندرج في إطاره مناطق في دولة جيبوتي؛ وإقليم «أوغادين» الذي قضمته إثيوبيا بعد تلقي ضوء أخضر من القوى الاستعمارية في حينه؛ وأخيرًا إقليم «المقاطعة الشمالية»، الذي «تنازل» عنه الاستعمار لكينيا!
الهدف الثاني من الاستراتيجية الإقليمية المعادية في إطار «حروب الظل»، هو إزكاء الصراعات المسلحة في منطقة لا تبعد كثيرًا عن مضيق باب المندب، ودفع «قوى الشر» إلى تعطيل الملاحة في قناة السويس، وحرمان الدولة المصرية من عوائد ربط آسيا وأقاصيها بالقارة الأوروبية، لصالح مشروعات منافسة لازالت حبرًا على ورق، وتعطيل مشروعات البنى التحتية اللوجستية، التي تتأهب عضلاتها المفتولة لإنعاش الاقتصاد المصري؛ فإذا كان صمود المصريين على الجبهة الشرقية قد حال دون تمرير مشروعات لم تعد خافية، فلا مانع، وفق مهندسي الاستراتيجية المعادية، من نقل مسرح عمليات استنزاف الدولة المصرية إلى أعالي الجنوب، لاسيما بعد رفض القاهرة الانضمام إلى «تحالف الأزهار»، أو بالأحرى «تحالف البحر الأحمر»، الذي أعلنته الإدارة الأمريكية في 18 ديسمبر الماضي.
ومن رحم هذا الهدف يطل برأسه الهدف الثالث، وهو محاولة جر مصر بعد اتفاق الدفاع المشترك مع الصومال إلى مستنقع مواجهة صفرية وسط ساحة حُبلى بألغام «قوى الشر»؛ لكن وعي الدولة المصرية كفيل بتوخي الحذر، لاسيما بعد اختبار تعاطيها مع أزمات عمقها الاستراتيجي في اليمن وسوريا والعراق والسودان، وكذلك إثيوبيا؛ ولعل ثبات المواقف المصرية وتفادي الاستفزازات عند صناعة القرار الاستراتيجي، يفسر مدى سرعة القفزات المعادية الموتورة على جسد التقارب المصري الصومالي الوليد.
لا يمكن في تلك السياقات، استبعاد الحضور الإسرائيلي عن محور «الطبعة الجديدة» من مشروع تمزيق الصومال بأبعاده، وبالتالي – اعتمادًا على الربيبة إثيوبيا - إحباط التقارب المصري مع الصومال، وإبعاد الأذرع المصرية عن التموضع على مرمى حجر من الحدود الإثيوبية، أو بالأحرى خلق موطئ قدم في إطار اتفاق الدفاع المشترك مع الصومال قرب ما يُعرف بـ«سد النهضة».
ولا يمكن في تلك السياقات أيضًا، استبعاد استراتيجية إسرائيل (القديمة - الجديدة)، المعروفة بنظرية «تحالف الطوق»، التي تعتمد على اختراق دوائر المحيط الإقليمي الإسرائيلي بداعي «خلق صداقات جديدة مع دول وكيانات وأقليات عرقية في دول المنطقة»؛ وليس ثمة شك في أن زيارة رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد لإسرائيل في سبتمبر 2019، ولقاءه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كانت جزءً من النظرية التي اعتبرتها إسرائيل في البداية «نظرية دبلوماسية»، لكنها سرعان ما تطورت إلى «نظرية أمنية»، هدمت دولًا بفعل تمدد روافدها في كامل المنطقة، وأنهكت جيوشًا وطنية، كانت تعد في الماضي غير البعيد أحد دروع منظومة الأمن القومي العربي (يأتي الحديث عن ذلك لاحقًا).
ابتكر النظرية راؤوفين شيلوَّح، أبرز المستشارين المقربين لأول رؤساء وزراء إسرائيل دافيد بن جوريون، وهدفت في المقام الأول إلى تحييد مقاومة الدول العربية الواسعة للوجود الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. وعمدت النظرية والقائمون عليها في تل أبيب إلى تعزيز العلاقات مع النظام الإثيوبي بقيادة هيلا سيلاسي، وكان الهدف، كما أسلفنا في مقالنا السابق، تعزيز التموضع الإسرائيلي بما يهدد مصالح مصر المائية في أعالي النيل، وإنهاك وتشتيت الجيش المصري حال الدفاع عنها. وإمعانًا في إلهاب عمق مصر الاستراتيجي في الجنوب، وطدت إسرائيل علاقاتها الدافئة مع دوائر التمرد في جنوب السودان، وأزكت صراعها المسلح خلال الحروب الأهلية، التي أفضت في نهاية المطاف إلى تمزيق السودان، وانفصال شماله عن جنوبه.
قبلها امتدت ألسنة تطبيقات النظرية الإسرائيلية إلى توسيع التحالف مع الأكراد في شمال العراق، وبينما كان الهدف المعلن هو الوقوف إلى جانب تلك الأقلية غير العربية، ودعم حصولها على الاستقلال؛ تمحور الهدف الحقيقي في قتال وإنهاك الجيش العراقي، خاصة مع سخائه في دعم صفوف العسكرية العربية ضد إسرائيل، بداية من حرب 1948 حتى حرب 1973 (يأتي الحديث عن ذلك لاحقًا).
وإذا كانت إسرائيل قد نجحت في قولبة وتسويق تلك المعلومات (المتاحة) في إطار استراتيجية مزعومة: «التحصين ضد العزلة وسط محيط إقليمي معادي»، فما لم ولن تعلنه إسرائيل هو أن نظريتها عند ولادتها وفيما بعدها، جابهت في المقام الأول وحتى الآن الجيش والدولة المصرية، التي تضعها إسرائيل رغم معاهدة السلام في طليعة الجبهات المعادية، التي تحذر منها تل أبيب دائمًا بقاعدة أقرب إلى الحكمة العسكرية: «الدواهي لا تأتي دائمًا إلا من الجنوب»؛ ولنا في الحديث بقية.