الجوع لن يهزم الثورات

السبت، 03 أغسطس 2024 05:08 م
الجوع لن يهزم الثورات
حمدى عبدالرحيم

ما يحدث لغزة من حصار وتجويع وتدمير لكل البنى التحتية ليس طارئا على حركة التاريخ فكل هذا ضريبة يدفعها طالب الحرية والعزة والكرامة
 
لم يخلق بعدُ الثورى الذى لا يُضرب حوله حصار مميت، وقد حوصر سيد الخلق وسيد الثوار صلى الله عليه وسلم لثلاث سنوات فى شِعب عمه أبى طالب، حوصر الرسول والمسلمون وبنو هاشم، يصف لنا الإمام ابن القيم فى كتابه «زاد الميعاد» صورة من صور الحصار، فيقول: «لما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم وبنى المطلب وبنى عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى سقف الكعبة، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنى هاشم وبنى المطلب، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فى شِعْب أبى طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين مضيقا عليهم جدا، مقطوعة عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجَهْد، وسُمِعَ أصوات صِبيانِهم بالبكاء من وراء الشِّعب».
 
ويروى عن خال الرسول الصحابى الجليل سعد بن أبى وقاص أنه قال: «خرجت ذات يوم ونحن فى الشعب لأقضى حاجتى فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هى قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فتقويت بها ثلاث ليال».
 
وعلى ما سبق فإن ما يحدث لغزة من حصار وتجويع وتدمير لكل البنى التحتية ليس طارئا على حركة التاريخ، فكل هذا ما هو إلا ثمن للحرية، وضريبة يدفعها طالب الحرية والعزة والكرامة.
 
وأنا أراجع قصص الحصار وقعت عيناى على كلام ثمين، حرصت على الاحتفاظ بنسخة من البحث ولكن للأسف ضاع منى اسم الباحث.
 
تحدث الباحث عن تجارب حركات التحرر الوطنى، وتوقف طويلا عند تجربة غينيا بيساو فقال: «غينيا هذه (إحدى الغينيات الأربع فى العالم)، بلد صغير جدا، يبلغ عدد سكانه الآن نحو 2 مليون نسمة، وفى منتصف السبعينيات بالكاد وصل عدد السكان لـ800 ألف نسمة منهم 150 ألف لجأوا إلى السنغال وجمهورية غينيا وغامبيا، بينما كان هناك 2,500 أوروبى يشكلون نخبة بيضاء تدير البلاد وتنهبها».
 
ضربت المجاعة البلاد 79 مرة تحت الاستعمار البرتغالى بحسب بيانات نشرتها «مؤسسة الأبحاث فيما وراء البحار» البرتغالية فى عام 1960، قضى فى 58 مجاعة من عام 1847 وحتى عام 1899 ما مجموعه 250 ألف شخص، وفى 21 مجاعة من عام 1900 وحتى عام 1960 ما مجموعه 135 ألف شخص.
هل رأيت فداحة الأرقام؟
 
من وسط هذا الواقع ظهر أميلكار كابرال المهندس الزراعى ابن العائلة الثرية التى انتقلت للعيش فى البرتغال، إلا أن الرجل قرر العودة لبلاده فى محاولة لحشد الجهد الدبلوماسى لتحريرها لكن سرعان ما فهم أن الكفاح المـسـلّح هو الطريق الوحيد.
 
حاول أن يؤسس لعمل سرى مناهض للاستعمار منذ عودته من لشبونة عام 1952، لكن أمره انكشف وطردته السلطات إلى أنجولا، وهنا يبرز تحول جذرى فى مسيرته بانضمامه للرفاق فى حركة تحرير أنجولا، ليؤسس بعدها الحزب الأفريقى لاستقلال غينيا والرأس الأخضر عام 1956، وبعد سنوات من العمل على تعبئة الريف انطلقت الثورة فى بداية عام 1962، ولم يكن الأمر بمعزل عن الحركات التحررية الأخرى فى أفريقيا، فقد استضافت الدار البيضاء 1961 اجتماعا وكان من مخرجاته إقامة نوع من الرابطة النضالية الموحدة بين حركات التحرير فى المستعمرات البرتغالية فى أفريقيا.
 
كانت الثورة فى غينيا بيساو قد انتهجت حرب استنزاف العدو والتخريب المستمر، ولولا الدعم الذى حصلت عليه البرتغال من حلف الناتو لحققت الثورة نجاحها بشكل أسرع، لكن بحلول 1964، كانت خسارة الاستعمار كبيرة وسيطر الثوار على معظم البلاد وعقد حزب PAIGC الثورى فى شباط من العام نفسه مؤتمره الأول وأصدر برنامجه السياسى من أبدع ما يكون ومن أرقى ما قرأت، كما أنشأ القوات المسلحة الثورية.
 
تصعد القصة إلى ذروتها، ونكمل مع الباحث: لقد اغتيل كابرال فى تمام الساعة 10:30 مساء من يوم السبت 20 يناير 1973 قبل أن يتم عامه الخمسين، فى عملية قامت بها قوة بحرية برتغالية هاجمت مقر الحزب فى كوناكرى عاصمة جمهورية غينيا المجاورة، وجاء الهجوم من المحيط الأطلسى بالتعاون مع خونة ومنهم رفيق كابرال!
 
قتل القائد وخيانة بعض الرفاق لم تدمر المشروع الثورى، بل كانت دماء القائد خير دافع للثوار فقد تمكنوا بعد أقل من أربعة أشهر من السيطرة على البلاد بعد أن شلوا فعالية الطيران البرتغالى، وفى يونيو من العام ذاته انتخب مهندس الراديو الشاب آرستيد بيريرا «49 عاما» وتأسست أمانة الحزب كممثل شرعى ووحيد للشعب فى البلاد واعترفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة باستقلال البلاد وقد عارض هذا القرار 7 دول هى «البرتغال، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وجنوب أفريقيا، وأستراليا، ومالاوى».
 
رغم كل التضحيات فقد انتصر المقاومون فى غينيا بيساو، ومع كل التضحيات سينتصر المقاومون فى فلسطين وفى كل بلد يتوق إلى الحرية والكرامة.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق