حكم حجر الأم على ابنها الرشيد الذي طرأ عليه السفه دون حكم قضائي
الخميس، 25 يوليو 2024 04:22 ممنال القاضي
أوضحت دار الإفتاء خلال ردها على سائل يقول ،ما حكم منع الابن الرشيد من التصرف في ماله دون حكم قضائي إذا طرأ عليه السفه بعد البلوغ؟ لأن ابني بلغ رشيدًا، وله مال خاص به، ثم طرأ عليه السفه بعد البلوغ فصار مبذِّرًا في ماله، فهل يجوز لي أن أمنعه من التصرف في ماله دون حكمٍ قضائيٍّ؟
الجواب
لا يجوز للأم أن تحجر على ابنها الذي بلغ رشيدًا ثم طرأ عليه السفه دون حكمٍ قضائيٍّ، بل عليها أن ترفع الأمر إلى القضاء، وذلك لما لديه من سلطات واسعة في التحقيق والإثبات التي لا تتوفر لدى آحاد الناس، والتي بها يتوصل إلى ثبوت السفه من عدمه، وما يقضي به القاضي يتعين العمل به.
حفظ المال مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية
الأصل في الإنسان المكلف أنه أحق بماله يتصرف فيه كيفما شاء ما دام أهلًا للتصرف، بأن كان بالغًا عاقلًا رشيدًا، فإذا قام به عارضٌ من عوارض الأهلية، مُنِعَ من التصرف في ماله مُراعاةً لمصلحته وحِفظًا للمال من الضياع؛ إذ المقرَّر أنَّ حفظ المال مقصدٌ من المقاصد الكلية التي راعتها الشريعة الإسلامية وأمرت بالمحافظة عليه.
قال الشيخ محمد بن علي المكي المالكي في "تهذيب الفروق" (3/ 247، ط. عالم الكتب): [مقصود الشرع حفْظُ المال عن الضياع] اهـ.
ومن مظاهر ذلك: الحجر على السفيه، وهو الذي يصرف ماله في غير موضعه، ويُبذِّر في مصروفاته، ويضيع أمواله، ويتلفها بالإسراف، وذلك حتى لا يصبح في ضيقٍ من عيشه ويصبح عالةً على غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5].
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (5/ 30، ط. دار الكتب المصرية): [دلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لأمر الله عز وجل بذلك في قوله: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾] اهـ.
بيان ضابط السفه عند الفقهاء
ضَبَطَ الفقهاءُ السفهَ بأنَّه: خفةٌ تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف مُوجَبِ الشرع والعقل مع قيام العقل، وَمَنْ عادَتُهُ التبذير والإسراف في المال، والتصرف فيه لا لغرضٍ، أو لغرضٍ لا يَعُدُّهُ العقلاء من أهل الديانة غرضًا، كالإلقاء في البحر، والإحراق بالنار، وشراء الحمام الطيارة بثمن غالٍ، والغبن الفاحش في التجارات من غير محمدةٍ، فهو السفيه، كما في "العناية شرح الهداية" لأكمل الدين البابرتي الحنفي (9/ 259، ط. دار الفكر).
حكم الحجر على السفيه الذي طرأ عليه السفه بعد بلوغه رشيدًا
قد اختلف الفقهاء في الحجر على السفيه الذي طرأ عليه السفه بعد بلوغه رشيدًا على مذهبين:
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّه يُحجَرُ عليه، ويُمنع من التصرف في المال، حتى يصير راشدًا مُحسنًا للتصرف، وهذا هو قول الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية.
قال الإمام أبو الحسين القُدوري الحنفي في "مختصره" (ص: 95، ط. دار الكتب العلمية): [قال أبو يوسف ومحمد: يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله] اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (5/ 64، ط. دار الفكر): [ويحجر على البالغ السفيه في ماله، وإن كان شيخًا، ولا يتولى الحجر إلا القاضي] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "منهاج الطالبين" (124، ط. دار الفكر): [فلو بَذَّرَ بعد ذلك حُجِرَ عليه] اهـ.
قال العلَّامة الخطيب الشربيني شارحًا في "مغني المحتاج" (3/ 140، ط. دار الكتب العلمية): [(فلو بَذَّرَ بعد ذلك) أي: بعد بلوغه رشيدًا (حُجِرَ) أي حجر القاضي (عليه)] اهـ.
وقال الإمام البُهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 527، ط. دار الكتب العلمية): [(وإن فك عنه الحجر) بأن بلغ عاقلًا رشيدًا (فعاوده السفه) أعيد الحجر عليه (أو جُنَّ) بعد بلوغه ورشده (أُعِيدَ الحجر عليه) لأنَّ الحكم يدور مع علته] اهـ.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى: أنَّه لا يُحجَرُ عليه، ولا يُمنَعُ من التصرف في المال، فتصرفه في ماله جائزٌ، وإن كان مبذرًا مفسدًا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة.
قال الإمام القدوري الحنفي في "مختصره" (ص: 95): [قال أبو حنيفة: لا يحجر على السفيه إذا كان بالغًا عاقلًا حرًّا، وتصرفه في ماله جائز، وإن كان مبذرًا مفسدًا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة] اهـ.
والذي عليه أكثر أهل العلم: أنَّه يحجر على السفيه ولو طرأ عليه السفه بعد بلوغه رشيدًا، قال الإمام أبو الحسن ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 179، ط. الفاروق الحديثة): [الأكثر من أهل العلم يوجبون الحجر على الحر البالغ المُضَيِّعِ لماله صغيرًا كان أو كبيرًا] اهـ.
وقت ابتداء الحجر على السفيه، وما عليه القانون
ومع اتفاق الجمهور على ذلك، إلا أنَّهم اختلفوا في وقت ابتداءِ الحجرِ عليه، هل يكون بمجرد ظهور السفه، أم أنَّه يحتاج إلى حكم القاضي؟ على ثلاثة مذاهب، المُختَار منها للفتوى وما أخذ به القانون: أنَّه لا يثبت الحجر عليه إلا بحكم القاضي، وذلك أن التبذير والإسراف شيءٌ غير منضبط، ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق القاضي؛ لاختلاف النظر فيه بين آحاد الناس، وما تختلف فيه الأنظار لابد من اللجوء فيه إلى القضاء كما قرره الإمام القرافي رحمه الله تعالى، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية -في الأصح عندهم- والحنابلة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (7/ 169، ط. دار الكتب العلمية): [... هل يصير محجورًا عليه بنفس السفه أم يقف الانحجار على حجر القاضي؟ قال أبو يوسف: لا يصير محجورًا إلا بحجر القاضي] اهـ.
وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل" (6/ 95، ط. دار الفكر): [ويحجر على البالغ السفيه في ماله، وإن كان شيخًا، ولا يتولى الحجر إلا القاضي] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "روضة الطالبين" (4/ 182، ط. المكتب الإسلامي): [فرعٌ: لو عاد التبذير بعدما بلغ رشيدًا، فوجهان:... وأصحهما: لا يعود، لكن يعيده القاضي] اهـ.
وقال الإمام البُهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (2/ 178، ط. عالم الكتب): [ولا يَحجر عليه (ولا يَنظر في ماله إلا حاكمٌ) لاختلاف التبذير الذي هو سبب الحجر عليه ثانيًا فيحتاج إلى الاجتهاد] اهـ.
وهو ما نصَّ عليه قانون الولاية على المال رقم 119 لسنة 1952 في المادة 65، فقال: [يُحكم بالحجر على البالغ للجنون أو للعته أو للسفه أو للغفلة، ولا يُرفع الحجر إلا بحكمٍ، وتُقيم المحكمة على من يُحجر عليه قيِّمًا لإدارة أمواله وفقًا للأحكام المقررة في هذا القانون] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فلا يجوز للأم أن تحجر على ابنها الذي بلغ رشيدًا ثم طرأ عليه السفه دون حكمٍ قضائيٍّ، بل عليها أن ترفع الأمر إلى القضاء، وذلك لما لديه من سلطات واسعة في التحقيق والإثبات التي لا تتوفر لدى آحاد الناس، والتي بها يتوصل إلى ثبوت السفه من عدمه، وما يقضي به القاضي يتعين العمل به.