ملف| مصر وسط رقعة «شطرنج» مشتعلة.. القاهرة تدرك تفاصيل اللعبة (3)
السبت، 13 يوليو 2024 06:47 م
- فلسطين فى القلب.. وأمن «البحرين» أولوية.. ودبلوماسية الطاقة تعيد رسم العلاقات.. والقوة العسكرية للحماية
- الدبلوماسية المصرية تدير التدخل الداعم للاستقرار والتعاون الجماعى وفق ثوابت داعمة لتماسك مؤسسات الدولة الوطنية وتعلى من قيمة التعاون الإقليمى
فى خضمّ هذا الموج المتلاطم، تقف مصر على رقعة شطرنج مشتعلة، الكل من حولها يترنح، وتقف هى تحمى حدودها وتحافظ على ألا تنجرف لصراع قد يدفع بها نحو الهاوية، فلا نجاة فى حرب، حتى ولو انتصرت.
يبدو أن الخيوط ترابطت الآن، فمصر «المحاصَرة» ما زالت «صامدة»، وما كان هذا الصمود إلا بجهود قيادة القاهرة لتظل باقية، دون أن تلتهمها النيران، أو تجتاحها قطع الشطرنج المشتعلة، فلو دخلت أرضها لن تخرج بسلام.
فى وسط هذا الكم من التشابكات تعلم القاهرة تفاصيل اللعبة جيدا، فجمعت أوراقها ورسمت خطوطها، تجاه «القضية الفلسطينية» و «أمن البحرين الأحمر والمتوسط»، فلا يمكن التعامل مع أحدهما دون الآخر.
وتتعامل القاهرة مع القضية الفلسطينية على أنها قضية وطن، وأمة عربية، لا يمكن تصفيتها، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، فعملت على اتجاهات عدة بشكل متزامن، فرفضت تصفية القضية واتخذت كل الإجراءات الكفيلة بذلك، معلنة رفضها لسياسة العقاب الجماعى، ومنع التهجير القسرى للفلسطينيين، وتقديم جهود الوساطة، والدفع لإتمام وقف إطلاق النار، والدفع نحو حل الدولتين، كذلك خلق مناخ سياسى مستقر بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة فى إطار مبدأ حل الدولتين، وموقف عربى ودولى موحد وتفويت الفرصة على تل أبيب لتصفية القضية، عبر وضع قوات دولية وعربية أو قوات إسرائيلية فى قطاع غزة، وتحييد دور السلطة الفلسطينية.
ومن خلال مجموعة من الإجراءات نستطيع الإجابة عن التساؤل: ماذا فعلت القاهرة من أجل القضية الفلسطينية منذ عملية «طوفان الأقصى»؟
ثوابت
فى خطابات متكررة أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى الثوابت المصرية تجاه القضية الفلسطينية، وهى الرفض التمام لأى تهجير للفلسطينيين من أراضيهم إلى سيناء أو إلى أى مكان آخر، حفاظا على القضية الفلسطينية من التصفية وحماية لأمن مصر القومى، والإصرار والعمل المكثف لوقف إطلاق النار، وإنفاذ المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ودفع جهود إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، ليحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة.
دبلوماسية مكوكية
فور بدء العمليات العسكرية، فتحت القيادة السياسية المصرية قنوات اتصال مباشرة مع العديد من قادة العالم إقليميا ودوليا. من العاهل الأردنى، والرئيس الإماراتى، وولى العهد السعودى، ورؤساء ومسئولى تركيا، فرنسا، الولايات المتحدة، إيطاليا، إسبانيا، وفلسطين.
كما استقبلت القاهرة المستشار الألمانى، رئيس الوزراء البريطانى، أمين عام الأمم المتحدة، ووزير الخارجية الأمريكى. خلال جميع هذه الاتصالات، تم تأكيد أهمية خفض التصعيد، إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وتجنيب السكان المدنيين أهوال هذه العمليات.
كذلك لجأت لـ«دبلوماسية القمم»، ودَعت لعقد قمة سلام فى القاهرة يوم 21 أكتوبر، بمشاركة 31 دولة من مختلف أنحاء العالم وممثلين عن منظمات إقليمية ودولية، أكدت ضرورة التوصل لحل الأزمة، ومراعاة الأبعاد الإنسانية والقانونية والالتزام بها خلال العمليات، وضرورة التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، استنادا إلى مبدأ حل الدولتين.
وطرح الرئيس السيسى خلال القمة «خارطة طريق» تستند إلى ثلاثة أسس: دخول المساعدات الإنسانية للقطاع، التوصل إلى تهدئة بين الجانبين، بدء مفاوضات سياسية تؤدى إلى حل الدولتين.
كذلك كثفت اتصالاتها المؤثرة مع الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى لرسم محددات التدخل وملامح المراحل اللاحقة من الصراع، انطلاقا من أن كلا الجانبين يدرك ضرورة وحيوية التدخل المصرى لخفض التصعيد.
سردية ثابتة
ركزت السردية المصرية تجاه القضية الفلسطينية على الحل العادل للأزمة، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وتجاه الأحداث الأخيرة فى القطاع، ركزت على أن ما يحدث جريمة إبادة جماعية، وعدوان غاشم، نجحت هذه السردية فى إيجاد دعم دولى للقضية الفلسطينية، مدفوعة فى ذلك بمكانة القضية فى السياسة المصرية، وتاريختها.
المساعدات
باعتراف كل الأطراف الدولية، لعبت القاهرة دورا كبيرا فى إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، آخرها اعتراف السفيرة الأمريكية بمصر، الأحد الماضى، خلال زيارتها لشمال سيناء، حيث أشادت بالدور المصرى فى منطقة الشرق الأوسط، ودورها الحيوى فى الحرب على قطاع غزة، والعمل مع مختلف الشركاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لعودة الاستقرار إلى المنطقة، مُؤكدة أن مصر تبذل جهودا كبيرة لضمان وصُول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين فى قطاع غزة، واستقبال هذه المُساعدات وتخزينها عن طريق الهلال الأحمر المصرى بالعريش، وأن الحكومة المصرية لديها رُؤية طويلة المدى فى العمل مع مختلف الأطراف من أجل تحقيق السلام فى منطقة الشرق الأوسط.
وذكرت أنه قد كان ملحوظا حرص القاهرة على استدامة العمل فى معبر رفح على الدوام، رغم القصف الإسرائيلى للجانب الفلسطينى منه فى أكثر من مرة، وعلى الرغم من كل العراقيل والقيود التى تحاول إسرائيل فرضها إلا أن مصر ظلت ملتزمة، بضمان دخول المساعدات لقطاع غزة، وضغطت فى البداية عبر ورقة مزدوجى الجنسية، وصولا إلى الإنزال الجوى للمساعدات على قطاع غزة.
ولم تدخر مصر جهدا لضمان استمرار طائرات الإغاثة، التى بلغت حتى 10 أبريل الماضى 582 طائرة، وهى نسبة قديمة نسبيا، مع استمرار الجسر الجوى الإنسانى، حيث استمرت الطائرات المصرية بالتعاون مع نظيراتها من الدول الشقيقة والصديقة فى تنفيذ طلعاتها اليومية من مصر والأردن لإنزال المساعدات الإنسانية إلى سكان شمال قطاع غزة، للحد من وطأة المعاناة الإنسانية الكبيرة التى يوجهونها فى ظل العراقيل والصعوبات التى تحول دون انتظام دخول المساعدات بصورة كافية للمناطق الشمالية.
وحتى 10 أبريل أيضا، بلغت نسبة المساعدات المصرية من إجمالى المساعدات التى تم إدخالها إلى قطاع غزة منذ أكتوبر الماضى، نحو 87%، وبلغ حجم الأدوية والمستلزمات الطبية التى أدخلتها مصر لقطاع غزة عبر معبر رفح منذ أكتوبر الماضى 10868 طنا، ونحو 10235 طنا من الوقود، و129329 طنا من المواد الغذائية، و26364 طنا من مياه الشرب، كما بلغت كميات المواد الطبية التى دخلت القطاع من معبر رفح 43073 طنا، بجانب 123 سيارة إسعاف مجهزة.
أمن البحرين الأبيض والأحمر
اتخذت مصر جهودا حثيثة لمواجهة التحديات والتهديدات فى البحرين الأحمر والمتوسط، لتعزيز أمنها القومى وتأمين مصالحها الاقتصادية والسياسية، منها تعزيز القدرات العسكرية، فقد عكفت على تطوير القوات البحرية، وتحديث الأسطول البحرى بما فى ذلك شراء فرقاطات وغواصات حديثة. على سبيل المثال، تسلمت مصر فرقاطات من نوع «ميكو -200» الشبحية من ألمانيا، ما يعزز من قدراتها البحرية فى حماية الملاحة والتصدى للتهديدات، بالإضافة إلى تأسيس قواعد بحرية، فأنشأت قواعد بحرية استراتيجية مثل قاعدة برنيس العسكرية فى جنوب مصر وقاعدة محمد نجيب العسكرية فى مرسى مطروح، هذه القواعد تهدف إلى تأمين السواحل المصرية وحماية الملاحة فى البحرين الأحمر والمتوسط، ما يدلل على بعد الرؤية المصرية وقراءة المشهد جيدا، وفى سياق إدراك خطورة الأوضاع فى البحر الأحمر ساحة التنافس الدولى.
ولم تكن مصر وحدها، بل عملت عبر التعاون الإقليمى والدولى على تعزيز أمن الملاحة وضمان الاستقرار فى البحرين، فمجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، شاركت مصر فى تأسيسه بمبادرة سعودية عام 2020، بهدف تنسيق الجهود لحماية الملاحة البحرية فى البحر الأحمر، بالإضافة إلى قيادة قوة المهام المشتركة 153، فى ديسمبر 2022، تختص بمكافحة أعمال التهريب والتصدى للأنشطة الإرهابية فى البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.
بالإضافة إلى الاشتراك فى مناورات بحرية مشتركة مع الشركاء الإقليميين والدوليين لتعزيز التعاون وتبادل الخبرات، من أبرز هذه المناورات «حسم 2020» و«النجم الساطع» و«ميدوزا»، و3 مناورات مع السودان وحدها «نسور النيل 1» و«نسور النيل 2»، ومناورة «حماة النيل» فى مايو 2021.
كما عززت مصر من إجراءاتها الأمنية فى البحرين الأحمر والمتوسط لمكافحة الإرهاب والقرصنة، بما فى ذلك تسيير دوريات بحرية منتظمة والتعاون مع الدول الأخرى لمراقبة الأنشطة المشبوهة، بالإضافة إلى تدريب وتأهيل قواتها البحرية للتعامل مع التهديدات المختلفة، بما فى ذلك القرصنة والإرهاب البحرى، وبفضل هذه الإجراءات الشاملة، تسعى مصر إلى تأمين مصالحها الوطنية وحماية أمنها القومى فى مواجهة التحديات والتهديدات فى البحرين الأحمر والمتوسط.
تقول ورقة بحثية بعنوان «المهددات والاستجابة.. السياسة المصرية تجاه أمن البحر الأحمر»، للزميلة شيماء البكش، نشرها المرصد المصرى، إن السياسة المصرية تسعى إلى إعادة الانخراط إقليميا من خلال مداخل متعددة، بما فيها دعم الدول الشريكة فى مواجهة جوانب التهديد على المستوى الوطنى وبالتبعية على المستوى الإقليمى، نظرا لتزايد التدخل الإقليمى والدولى فى صراعات وفى التحولات السياسية التى تشهدها دول المنطقة، على نحوٍ يوجه مسارات الصراع فى اتجاه حسابات موازين القوى الإقليمية والدولية، بما يغفل مصالح الدول الوطنية، ويهدد مصالح القوى الإقليمية بما فيها المصالح المصرية.
وأضافت أن مصر تعمل من خلال الأداة الدبلوماسية على إدارة التدخل الداعم للاستقرار والتعاون الجماعى وفق ثوابت السياسة الخارجية المصرية، التى تدعم تماسك مؤسسات الدولة الوطنية وتعلى من قيمة التعاون الإقليمى على كل مستوياته السياسية والاقتصادية، ومن هذا المنطلق، تتبنى مصر سياسة نشطة إزاء دول القرن الأفريقى، من خلال الانخراط فى اتفاقيات تعاون اقتصادى وعسكرى، فضلا عن الانخراط فى الأزمات السياسية التى تشهدها تلك الدول، بما فى ذلك الانخراط النشط فى مسارات الانتقال السياسى المتعثر الذى يمر به السودان منذ عام 2019، وكذلك إعادة توثيق الصلات مع كلٍ من الصومال وجيبوتى وإريتريا، والذى تجلت صوره مؤخرا فى الانحياز المصرى الصريح للصومال فى أية تهديد إقليمى قد يتعرض له، على خلفية أزمة أرض الصومال.
واستطردت «البكش»: «عملت مصر على توقيع اتفاقيات تعاون عسكرى مع أغلب دول المنطقة، فخلال زيارة الرئيس السيسى إلى جيبوتى فى مايو 2021، كأول رئيس مصرى يزورها منذ الاستقلال، كان الاتفاق على التعاون الفنى والعسكرى حاضرا ضمن أجندة التعاون بين البلدين، واتفق حينها على تعزيز التعاون فى مجالات مكافحة الإرهاب وجميع أشكال الجريمة المنظمة، وكذلك أمن البحر الأحمر وخليج عدن، من خلال التنسيق فى إطار مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، بالإضافة إلى اتفاقيات للتعاون العسكرى مع دول حوض النيل مثل كينيا وأوغندا وبوروندى والسودان، إذ وقّعت مع الأخيرة اتفاقية للتعاون العسكرى فى مارس 2021.
وفى مسرح عمليات الأسطول البحرى الجنوبى المصرى، تنفذ البحرية المصرية مناورات بحرية مشتركة مع عدد من الدول الشريكة بما فى ذلك السعودية وفرنسا والولايات المتحدة، بهدف الارتقاء بمستوى التدريب ونقل وتبادل الخبرات.
أمن الطاقة
وفى وسط فوضى الإقليم ككل، كانت لمصر تحركات فى منطقة شرق المتوسط للتأكيد على مصالحها وحماية حقوقها، وفق أطر واضحة ومشروعة ودبلوماسية وقائية دفعت نحو تعزيز مكانتها فى المنطقة وفى أسواق الطاقة خاصة الغاز.
سعت القاهرة من خلال اتفاقياتها لترسيم الحدود من دول كاليونان وقبرص وليبيا إلى تأمين مصالح الدولة وتعزيز النفوذ، وهو ما ظهر فى دوائر الحركة للسياسة الخارجية المصرية، حيث تصدر البحر المتوسط باعتباره أحد دوائر الأمن القومى المصرى.
وتحركت القاهرة لتحقيق الاكتفاء الذاتى من الطاقة، خاصة والتحول إلى دولة مصدرة للغاز، لذا تم العمل على تنمية حقوق الغاز، والتوسع فى عمليات التنقيب والاستكشاف، وجذب الشركات الدولية عبر تسويق وطرح عدد من المزايدات، وأسهمت تلك الإجراءات فى تحقيق الاكتفاء الذاتى بنهاية عام 2018، ولعبت عملية تطوير الحقول المكتشفة والمحتملة فى البحر الأبيض المتوسط دورا محوريا فى دعم الرؤية التنموية لمصر، إذ تُعد هذه الاكتشافات فرصة لدفع المشاريع التنموية قدما، بما يتماشى مع استراتيجية التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030.
قبل سنوات من التصعيد القائم فى البحر المتوسط، اتخذت القاهرة من دبلوماسية الطاقة مفتاحا لعلاقاتها مع دول الإقليم وبالتالى حققت مكاسب كبيرة فى ذلك، لذا نرى أنه فى ظل الانقسام العالمى حول القضية الفلسطينية يقف الجميع من القاهرة على مسافة واحدة.
يُشكل منتدى غاز شرق المتوسط إحدى الأدوات الأساسية لتحول مصر إلى مركز إقليمى للطاقة، تمتلك مصر كل القدرات اللازمة لتنفيذ هذا المشروع الحيوى، وتساعد المبادرة التى دعت إليها مصر فى تعزيز مكانتها السياسية على الصعيدين الإقليمى والدولى، لا سيما فى ظل الدعم الأوروبى، وبالفعل حقق أهدافا سياسية واقتصادية مهمة حيث قدمت القاهرة نفسها كفاعل بارز فى سوق الطاقة وبإمكانها أن تكون مصر مركزا إقليميا للطاقة وتحويل الغاز إلى مسال وإعادة تصديره، فضلا عن إقامة مشروعات تحويلية أخرى، بما يحمل قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد المصرى.