الهجرة النبوية: فجر جديد في تاريخ الإنسانية
الأربعاء، 10 يوليو 2024 05:30 ص
في قلب الصحراء العربية، وبين رمالها الذهبية التي تحمل في طياتها قصص الأجيال، سطرت الهجرة النبوية أروع معاني التضحية والصبر والإيمان. إنها الرحلة التي لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكة إلى المدينة، بل كانت بداية لعصر جديد، وحكاية لرسالة خالدة، وسطر مضيء في كتاب التاريخ الإسلامي.
في ذلك الليل المظلم، حين كانت مكة تغفو تحت سماء صافية، تسللت خيوط الضوء لتخترق حجب الظلام، حاملة معها بشائر الهجرة. كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يحمل في قلبه رسالة السماء، ويخطو بثقة نحو مستقبل مشرق للأمة الإسلامية. ترك مكة، موطن طفولته وشبابه، مكان الوحي الأول، ولكنه لم يكن مغادراً للذكرى بل كان باحثاً عن أرض تفتح ذراعيها للدعوة الجديدة.
كانت الهجرة اختبارًا للإيمان، وتجسيدًا لمعاني الصبر والتوكل على الله. استودع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأمانات في عنان السماء، وانطلقوا في رحلة مليئة بالمخاطر والصعاب. كان المشركون يترصدونهم، والسيوف مشرعة على الأبواب، لكن إرادة الله كانت حاضرة، فحمى رسوله وصاحبه في الغار، حتى قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا". فكان الرد الواثق: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بارعًا في توظيف الطاقات البشرية، واستخدام كل شخص في المكان المناسب له. فعلى سبيل المثال، نجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُكلَّف بالنوم في فراش النبي ليخدع قريش، ويتولى تسليم الودائع، ومن ثم يلتحق بالنبي. أما عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، فقد كان هو الدليل الصادق، يستمع لأحاديث الناس في مكة، ويتعرف على خطط العدو، ثم ينقل الأخبار إلى النبي وصاحبه.
وهذا عامر بن فهيرة رضي الله عنه، الراعي البارع، كان يسير بغنمه على نفس الطريق الذي يسلكه عبدالله بن أبي بكر، ليخفي أثر المسير فلا يتعقبهم المشركون. وهو الذي يروح عليهما بالحليب ليشربانه. أما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، ذات النطاقين، فقد كانت تحمل الطعام والتموين من مكة إلى الغار. وعبدالله بن أريقط، دليل الهجرة وخبير الصحراء، كان على أهبة الاستعداد ليقود الركب من الغار إلى يثرب.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بكل الأسباب الممكنة، ويعد للأمر عدته بخطة محكمة، لكنه لم يركن إلى الأسباب وحدها، بل كان قلبه معلقًا بالله، متوكلاً عليه. وعندما وصل المشركون إلى فم الغار، قال أبو بكر: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا". فجاء رد الرسول بثقة واطمئنان: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟".
التوكل عبادة قلبية عظيمة، تحقق الخير في الدنيا والآخرة. وقد تجلى هذا التوكل عندما أدركهما سراقة بن مالك، يروي الصديق رضي الله عنه قائلاً: "ارتَحلْنا والقَومُ يَطْلُبونا، فلم يُدرِكْنا مِنهُم غيرُ سُراقةَ بنِ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ على فَرَسٍ له، فقلْتُ: هذا الطَّلَبُ قد لَحِقَنا يا رسولَ اللهِ، قال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فلمَّا أنْ دَنَا فكان بيْننا قِيدَ رُمْحٍ أو ثلاثةٍ، قلْتُ: هذا الطَّلَبُ قد لَحِقَنا يا رسولَ اللهِ، وبكَيْتُ، فقال: (ما يُبكِيكَ؟) فقلْتُ: أمَا واللهِ ما على نَفْسي أَبكِي، ولكنِّي أَبكِي علَيكَ. قال: فدَعَا علَيهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: اللَّهمَّ اكْفِناهُ، قال: فساخَتْ بهِ فَرَسُه في الأرضِ إلى بَطنِها، فوَثَبَ عنها، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، قد عَلِمتُ أنَّ هذا عمَلُك، فادْعُ اللهَ أنْ يُنجِّيَني ممَّا أنا فيهِ، فواللهِ لَأُعَمِّيَنَّ على مَن وَرائي مِنَ الطَّلَبِ".
لم تكن المدينة المنورة مجرد محطة في طريق الهجرة، بل كانت البداية الحقيقية لدولة الإسلام. استقبل الأنصار المهاجرين بقلوب مفتوحة، وأسس النبي صلى الله عليه وسلم أول مجتمع إسلامي يقوم على المحبة والإخاء. كانت تلك اللحظة هي ميلاد أمة جديدة، تحمل في طياتها قيم العدالة والمساواة والرحمة.
الهجرة النبوية ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي رمز للتجدد والإصرار على تحقيق الأهداف النبيلة. لقد علمتنا أن التغيير لا يأتي إلا بالثبات على المبادئ، والإيمان العميق بالرسالة، والاستعداد للتضحية في سبيل الحق. إنها درس في كيفية تحويل المحن إلى منح، واليأس إلى أمل، والفرقة إلى وحدة.
في كل عام، حين يأتي ذكرى الهجرة النبوية، تتجدد في نفوس المسلمين مشاعر الفخر والعزة. يستذكرون تلك الأيام الخالدة، ويستلهمون منها العبر والدروس. فالهجرة ليست مجرد رحلة عبر الصحراء، بل هي رحلة عبر الزمان، تذكرنا بأهمية الثبات على الحق، والصبر في مواجهة التحديات، والسعي الدؤوب لتحقيق العدل والسلام.
إن الهجرة النبوية تظل نوراً ساطعاً يضيء دروب الإنسانية، ويدعونا إلى التأمل في قوة الإيمان، وعظمة الإرادة، وجمال التعاون والإخاء. إنها قصة تبقى محفورة في ذاكرة الزمن، تلهم الأجيال جيلاً بعد جيل، وتظل رمزاً للنجاح والتفوق رغم كل الصعاب.
الهجرة النبوية هي قصة البدايات الجديدة، والفرص التي تنبثق من رحم الصعوبات. إنها تذكرنا بأن كل نهاية هي بداية جديدة، وأن الأمل هو السراج الذي يضيء لنا الطريق حتى في أحلك اللحظات. فلتكن الهجرة النبوية مصدر إلهام لنا جميعاً، نستلهم منها قوة الإيمان، وجمال التضحية، وروعة التآخي، لنحقق أحلامنا ونبني مستقبلنا بأيدينا.