متى تستحب التلبية في الحج؟ وما الأماكن التي تقال فيها؟
الأحد، 02 يونيو 2024 12:01 ممنال القاضي
أجاب الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية على سؤال يقول صاحبه: متى تستحب التَّلبية في الحج؟ وما الأماكن التي تُقَال فيها؟
الجواب
يُسن للمُحرم الإكثار من التَّلبية متى صَعد مكانًا مُرتفعًا أو هبط وَادِيًا أو لَقِي راكبًا، وعند اجتماع الرِّفاق، وكذلك في أدبَار الصَّلَوَات، وإِقبَالِ اللَّيل والنَّهار، ويبدأ التلبية من حين الإحرام، ومَن شاء قَطَع التلبية بعد الزوال في يوم عرفة كما هو المشهور عند المالكية، ومَن شاء قطعها بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر كما هو مذهب الجمهور، والأمر فيه سَعَة.
متى تستحب التلبية في الحج؟ وما الأماكن التي تُقَال فيها؟
المقصود بـ«التَّلبية»: قول المحرم: «لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"؛ لما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ تلبيةَ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلْك، لا شريكَ لك» متفقٌ عليه.
وينبغي اقتران التَّلبية بالإحرام، على خلافٍ بين الفقهاء في كونها شرطًا للإحرام كما هو مذهب الحنفية، أو سُنَّةً له كما هو مذهب الشافعية والحنابلة، أو أنَّها واجبةٌ ويستحب اقترانها واتصالها بالإحرام ويَلْزَم بتركها دمٌ كما هو تحقيق مذهب المالكية. يُنظر: "تبيين الحقائق" للزيلعي (2/ 14، ط. الأميرية)، و"الشرح الكبير" للدردير بـ"حاشية الدسوقي" (2/ 39، ط. دار الفكر)، و"المجموع" للنووي (7/ 246، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" لشمس الدِّين ابن قدامة (3/ 260، ط. دار الكتاب العربي).
فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عمر رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يُهِلُّ مُلَبِّدًا، يقول: «لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيْك، لبَّيْك لا شريكَ لك لبَّيْك، إنَّ الحمْدَ والنِّعمَةَ لك والمُلْك، لا شريكَ لك»، لا يزيدُ على هؤلاءِ الكَلِماتِ. وإنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضِي الله عنهما كان يقول: كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استوت به النَّاقَةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفة، أهلَّ بهؤلاءِ الكَلِماتِ.
وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" أيضًا عن أنسٍ رضي الله عنه، أنَّه قال: صلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم بالمدينةِ أربعًا، وبذي الـحُلَيفةِ رَكعتينِ، ثمَّ بات حتى أصبَحَ بذي الحُـلَيفة، فلمَّا رَكِبَ راحِلَتَه واستَوَتْ به أهلَّ. متفقٌ عليه.
ويُسن للمُحرم الإكثار مِن التلبية متى صَعد مكانًا مُرتفعًا أو هبط وَادِيًا، وكذلك في أدبَار الصَّلَوَات، وإِقبَالِ اللَّيل والنَّهار وعند اجتماع الرِّفاق. يُنظر: "حاشية ابن عابدين" (2/ 491، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" للشيخ الدردير (2/ 39)، و"مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (2/ 238، ط. دار الكتب العلمية)، و"المغني" لابن قدامة (3/ 273، ط. مكتبة القاهرة).
مذاهب الفقهاء في وقت انتهاء التلبية في الحج
مع القول باقترانِ التَّلبيةِ بأولِ الإحرامِ إلَّا أنَّ الفقهاء اختلفوا في وقت انتهاء التلبية في الحج، فيرى الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو قولٌ عند المالكية: أنَّ انتهاء وقتها برمي جمرة العقبة يوم النَّحْر، أي: يوم العاشر من ذي الحجة، لا فَرْق في ذلك بين المفرد والقارن والـمُتَمتِّع.
قال الإمام الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (2/ 30، ط. الأميرية): [(واقطع التلبية بأولها)، أي: مع أَوَّل حصاة ترميها] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 375، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [ويقطع الحاج التلبية بأولِ حصاةٍ يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جائز مباح عند مالك] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 154، ط. دار الفكر): [ويقطع التلبية مع أول حصاة] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (5/ 395، ط. مؤسسة الرسالة): [ويقطع الحاج التلبية عند رمي أول حصاة من جمرة العقبة] اهـ.
بينما يرى المالكية في المشهور: أنَّ قطع التلبية في الحج يكون بعد الزوال يوم عرفة، على خلافٍ بينهم في قَطْع التلبية قبل عرفة في أثناء الطواف والسعي، هل تكون بدخول مكة أَمْ بالشروع في الطواف؟
أَمَّا من أحرمَ بالحجِ مِن عرفة فإنَّه لا يزال يُلَبِّي حتى يرمي جمرة العقبة، ومَن أحرم بعد الزوال، فالمشهور أنَّه يأتي بالتلبية، ثُمَّ يقطعها، وقيل: يُلَبِّي إلى رمي جمرة العقبة.
قال الإمام الحطاب المالكي في «مواهب الجليل» (3/ 107، ط. دار الفكر): [ص: (برَوَاحِ مُصَلَّى عرفة) ش: يريد إلَّا أن يُحْرَم بها، فإنَّه يُلَبِّي حينئذٍ، ثم يَقْطَع على المشهور، كما صَرَّح به القرافي في "شرح الجلاب"، وقال ابن الجلاب: إنه يلبي إلى جمرة العقبة] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في "شرحه على مختصر خليل" (2/ 324، ط. دار الفكر) في حكايته الخلاف في قطع التلبية: [(ص): وهل لمكة أو للطواف؟ خلاف، (ش): يعني: أنَّ مَن أحرم بحج مفردًا أو قارنًا هل يستمر يلَبِّي حتى يدخل بيوت مكة فيقطع التلبية، فإذا طاف وسعى عاودها حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها؟ هذا مذهب «الرسالة» وشَهَّره ابن بشير. أو لا يزال يلَبِّي حتى يبتدِئَ بالطواف، وهو مذهب «المدونة»، خلاف] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 371): [وإذا زالتِ الشمس قطع الُمحرِمون التلبيةَ إلا مَن أحرمَ بالحجِ بعرفةَ؛ فإنَّه لا يزال يُلَبِّي حتى يرمي جمرة العقبة... الاختيار عند مالك: قطعُ التلبيةِ للحاجِ عند زوال الشمس من يوم عرفة، وقال في "مُوَطَّئِهِ": على ذلك الأمر عندنا] اهـ.
وقد استدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما ورد في «الصحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أردَفَ الفَضْلَ، فأخبَرَ الفَضْلُ أنَّه لم يَزَلْ يُلَبِّي حتَّى رمى الجَمْرَةَ. متفق عليه.
وأيضًا بما أورده الإمام أحمد في «مسنده» بسنده عن عبد الله بن سَخْبَرَة رضي الله عنه، قال: غدوتُ مع عبد اللهِ بنِ مَسعودٍ رضي الله عنه مِن مِنًى إلى عرفاتٍ، فكان يلبِّي، قال: وكان عبد اللهِ رجلًا آدَمَ له ضَفرانِ، عليه مَسحةُ أهلِ الباديةِ، فاجتمع عليه غوغاءُ مِن غَوغاءِ النَّاسِ، قالوا: يا أعرابيُّ إنَّ هذا ليس يومَ تلبيةٍ، إنَّما هو يومُ تَكبيرٍ، قال: فعند ذلك التفَتَ إليَّ، فقال: أجهِلَ النَّاسُ أم نَسُوا؟! والذي بعث محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالحقِّ، لقد خرجتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ فما ترَكَ التَّلبيةَ حتى رمى جَمرةَ العقبةِ إلَّا أن يخلِطَها بتكبيرٍ أو تهليلٍ.
فالحديثان نَصَّان في انتهاء التلبية عند رمي جمرة العقبة، ولذلك يقول الطحاوي الحنفي في «شرح معاني الآثار» (2/ 224، ط. عالم الكتب): [قد جاءت عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم آثارٌ متواترة بتلبِيَتِه بعد عرفةَ إلى أنْ رَمى جمرَةَ العَقَبَة] اهـ.
يضاف لذلك أنَّ التلبية إنما تكون للإحرام، فإذا رمى الجمرة الكبرى يوم النَّحر فقد شَرَع في التَّحلُّل الأصغر، فلا معنى حينها للتلبية، بخلاف الوقوف يوم عرفة، فزمان الإحرام قائمٌ به لم ينته. يُنظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 361، ط. مكتبة القاهرةَ).
والأمر في ذلك على السَّعَة، فحيث لم يَرِد في المسألة إجماعٌ فإنَّ الإنكارَ على رأيٍ قيل فيها -تضييقٌ لا محل له، لا سيما وأنَّ مسائل العبادات الأصلُ فيها حَمْل أفعال المسلمين على الصِّحة وحصول الثواب ما أمكن ذلك، وعلى ذلك فمَن شاء لَبَّى حتى زوال يوم عرفة، ومَن شاء استمر بالتلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم النحر؛ وذلك استنادًا إلى ما قَرَّره الفقهاء مِن أنَّه «لا يُنْكَر المختلف فيه».
الخلاصة
بناءً على ما سبق: فيُسن للمُحرم الإكثار من التلبية متى صَعد مكانًا مُرتفعًا أو هبط وَادِيًا أو لَقِي راكبًا، وعند اجتماع الرِّفاق، وكذلك في أدبَار الصَّلَوَات، وإِقبَالِ اللَّيل والنَّهار، ويبدأ التلبية من حين الإحرام، ومَن شاء قَطَع التلبية بعد الزوال في يوم عرفة كما هو المشهور عند المالكية، ومَن شاء قطعها بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر كما هو مذهب الجمهور، والأمر فيه سَعَة.