دينا الحسيني تكتب: القاهرة بكين.. عقد ذهبي وتطلعات لمستوى أعمق من الشراكة
الثلاثاء، 28 مايو 2024 03:27 م
لطالما كانت العلاقة مع مصر مهمة بالنسبة للصين، إذ تعد مصر من أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات استراتيجية وسياسية كبرى مع الصين، على مدار 68 عامًا منذ أن اتخذ قادة البلدان قرارًا استشرافيًا بإقامة علاقات رسمية بينهم، وتحديدًا في 30 مايو 1956، وكان هذا التاريخ بداية انطلاق العصر الذهبي للعلاقات المصرية الصينية، التي شهدت تناغمًا دبلوماسيًا على الأصعدة كافة، فبكين ترى في مصر لاعبًا رئيسيًا ومؤثرًا في الشرق الأوسط والشريك الأهم في المنطقة.
تاريخياً، للصين حضارة عريقة، ولمصر أيضاً حضارة عريقة، وكلتا الحضارتين تتشاركان في زاويتين، الزاوية الأولى هي أن الصين لم تقم ببناء الأهرامات، ولكن من ناحية أخرى بنوا شيئا مماثلا، وهو سور الصين العظيم، وبالتالي فإن الحضارتين متشابهتان إلى حد ما، أما الزاوية الثانية فتتعلق بالعلاقات بين البلدين، وكانت الصين قبل الميلاد دولة تنتج كل سلع العالم، لكنها كانت تفتقر إلى صبغة الملابس التي اكتشفتها الحضارة الفرعونية القديمة في مصر، ولذلك فإن أول سفير صيني يأتي إلى مصر كان في عهد الملكة كليوباترا للحصول على الصبغة الثابتة، ومن هنا كانت العلاقات بين البلدين مبنية على المصالح الاقتصادية المشتركة والمنافع المتبادلة.
في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الصيني شي جين بينغ، توجت هذه الصداقة التاريخية بين البلدين بإطلاق حقبة جديدة من التعاون الاستراتيجي الشامل، وظهر ذلك من خلال تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، والتي كانت لها دلالات مختلفة، إذ زار الرئيس السيسي الصين حوالي 6 مرات والتقى بالرئيس الصيني بينغ أكثر من ثماني مرات أيضًا، مما يعطي تأملات ورسائل حول عمق العلاقات المصرية الصينية.
وفي أزمة كوفيد-19، بينما كان العالم يضطهد الصين وشعبها، لم تتأثر الصداقة الصينية المصرية، بل على العكس من ذلك، اتحدت حكومتا البلدين في مواجهة الوباء، وقدمت بكين لمصر أربع دفعات من المساعدات الطبية وأربع دفعات من اللقاحات، وساعدت مصر في بناء خط إنتاج الكمامات، ووقعت اتفاقية إنتاج محلي معها لإنتاج اللقاحات الصينية في القاهرة، ليس هذا وحسب، بل أصبحت مصر أول دولة في القارة الإفريقية تتعاون مع الصين لإنتاج لقاحات كوفيد-19، وبحلول نهاية عام 2021، وقع البلدان اتفاقية لإنشاء مخزن تبريد للقاحات بالتعاون بين شركتي سينوفاك الصينية وفاكسيرا المصرية.
وعلى صعيد القضية الفلسطينية تبدو الرؤى المصرية والصينية متطابقة بشأن ضرورة دعم القضية العادلة للشعب الفلسطيني، وكان للصين موقف واضح وحازم منذ بداية الحرب على قطاع غزة، بعدما عبرت عن رفضها تصفية القضية وأهمية أن يتمتع الشعب الفلسطيني بالسلام والاستقرار، هذا ما أكده وزير الخارجية الصيني وانغ يي خلال زيارته الأخيرة لمصر ولقائه مع نظيره المصري سامح شكري في 14 يناير الماضي، ودعمه للموقف المصري بأشكاله كافة.
ومن هنا يمكن القول إن الصين يمكن أن تساهم، بموقفها الواضح، في حل بعض القضايا العالقة في الشرق الأوسط، مثل القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الدولية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، بصفتها عضو دائم في مجلس الأمن ويتمتع بحق (الفيتو)، وقد أجرى الرئيس الصيني بينغ في السابق عدة مكالمات هاتفية مع قادة من مختلف الدول، وأوضح بشكل شامل موقف الصين المبدئي بشأن القضية الأوكرانية، وقدم اقتراحا من ست نقاط للتخفيف من الأزمة الإنسانية.
الصين كان لها أيضاً رأياً مؤثراً في مجلس الأمن بشأن مسار القضية الفلسطينية، وتماست الرؤى المصرية مع وجهات النظر الصينية إزاء العديد من النقاط المتباينة في الأزمة الفلسطينية، أبرزها الوقف الفوري للعدوان والدخول العاجل للمساعدات الإنسانية، وتحدثت دبلوماسية مصر والصين عن ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وضرورة إيجاد حل دائم للقضية على أساس حل الدولتين وفقا للقرارات الدولية والقانون الدولي، وشكل الصوت الواحد للقاهرة وبكين بشأن القضية الفلسطينية ضغطا دوليا قويا على إسرائيل وعلى الدول والحكومات التي تدعمها بشكل كامل، كما أن الارتباط المصري الصيني في القرارات السياسية أعطى الأمل في حل قريب للقضية الفلسطينية.
لا تتوقف العلاقات المصرية الصينية عند قضايا بعينها، إذ توجت العلاقة بينهما بشراكات اقتصادية مهمة، فبكين أكبر شريك تجاري لمصر في السنوات العشر الأخيرة، ومنذ عام 2014، وقع البلدان أكثر من 65 اتفاقية ثنائية، ووصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو 16 مليار دولار بنهاية عام 2022بحسب تصريحات أحمد سمير، وزير التجارة والصناعة المصري، خلال مشاركته في فعاليات الاحتفال بالذكرى الـ74 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، كل هذه الارتباطات الثنائية تؤكد تطور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فمصر، طوال تاريخها، لم تتم دعوتها لحضور قمة مجموعة العشرين وكانت الدعوة الأولى للرئيس السيسي من نظيره الصيني بينغ في مدينة هانغتشو في سبتمبر 2016، وكانت مصر ضيف شرف قوي اختارته الصين من بين الدول المشاركة.
وبصفتها إحدى الدول الكبرى في مجموعة البريكس، استقبلت الصين مصر في 23 أغسطس 2023، وهذا مؤشر أكبر على عمق العلاقات بين البلدين، وعندما أطلق الرئيس الصيني مبادرة الحزام والطريق عام 2013، كانت مصر من أوائل الدول التي وقعت على هذه المبادرة الاقتصادية التي تهدف إلى زيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات، وبالإضافة إلى ما سبق، قدمت الصين لمصر حزمة من القروض والمساعدات المالية تتراوح قيمتها بين 4 و5 مليارات دولار لتمويل تنفيذ العديد من المشروعات الكبرى وإنشاء البنية التحتية، بينها: العاصمة الإدارية الجديدة، والمنطقة الصناعية بقناة السويس، ومناطق التجارة الحرة، والقطار الكهربائي الذي يربط مدينة العاشر من رمضان بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وعلى مستوى العلاقات السياسية، فإن العلاقات المصرية الصينية تقوم على الاحترام المتبادل على مستوى قادة البلدين وحكومتي وشعبيهما، ودعمت الصين الشعب المصري في اختيار قيادته الوطنية خلال ثورة 30 يونيو 2013، وأعربت عن رفضها لأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية المصرية، كما تؤيد الصين خطوات مصر نحو التنمية الشاملة ومكافحة الإرهاب لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين، وفي المقابل أكدت مصر التزامها بمبدأ الصين الواحدة ودعمها لسيادة الصين ووحدة أراضيها، ولعل هذه هي السمة الأهم التي تميز العلاقات بين البلدين وهي موضع احترام وتقدير دولي وشعبي.
وبقراءة سريعة لمسار الأحداث على الساحة الدولية نجد أن هناك فرصا واعدة في مستقبل العلاقات المصرية الصينية رغم تغير الواقع الدولي منذ الحرب الروسية الأوكرانية ومحاولات ظهور عالم متعدد الأقطاب، بما في ذلك التعاون في مواجهة المشروعات العالمية الكبرى مثل ممر التنمية، وفرص الاستثمار المستقبلية التي يمكن أن تقدمها مصر للصين، والمبادرات التي يمكن أن تطرحها الصين بالتعاون مع مصر، وتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في المجال الأمني والقضائي، إمكانية التنسيق المشترك في إدارة أو حل الأزمات العالقة في فلسطين وليبيا والسودان وسوريا.
هذه الفرص الإيجابية تصب جميعها في مصلحة التنمية المستدامة بحلول عام 2030، وفي مصلحة البلدين، وإذا نظرنا إلى مبادرة الحزام والطريق نجد أنها تستحق أن تتوج بمبادرة القرن الحادي والعشرين لأنها لن تكتمل قبل عام 2049 كما يتصور بعض الخبراء، وهي مبادرة مهمة للغاية لربط قارات العالم، رغم محاولات بعض الأطراف تسيسها، لكنها مبادرة تنمية في المقام الأول، وتلعب مصر دورا محوريا من خلال قناة السويس والمنطقة الاقتصادية في هذه المبادرة العالمية.
وتتعدد دوافع القاهرة وبكين لتطوير علاقاتهما في المستقبل، وتعتزم الصين زيادة استثماراتها خلال الفترة المقبلة في منطقة قناة السويس باعتبارها طريق الشحن الرئيسي للصين نحو أسواقها التجارية الكبرى في أوروبا، وتشير كافة الترتيبات المصرية الصينية إلى أن شركة تيانجين الحكومية الصينية ستتولى الإشراف على تطوير المنطقة الاقتصادية الخاصة بقناة السويس، كما تسعى مصر إلى الاستفادة من نجاحات الصين من خلال إقامة علاقات اقتصادية وثيقة معها على أمل تعزيز مكانة مصر الاقتصادية واللوجستية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جعل أسواق مصر الكبرى متاحة بشكل كامل أمام المنتجات الصينية، ولن تكون الأسواق المصرية الوحيدة، حيث ستمثل المنطقة بأكملها نافذة اقتصادية لبكين، وتجعلها أكثر حضورا اقتصاديا في جميع المناطق.
وأخيرا، يمكن القول إنه على الرغم من القفزات الهائلة التي شهدتها العلاقات المصرية الصينية، إلا أنه لا تزال هناك العديد من المجالات التي تتطلب المزيد من التنسيق والتعاون بين البلدين، لتحفيز التعاون والتبادل الثنائي، إجراء حوار فعال ومستدام بين مجتمع الأعمال في البلدين الصديقين، بهدف استكشاف المزيد من الفرص الاستثمارية في المجالات الواعدة التي تدعم التحول الأخضر، بما في ذلك الطاقة المتجددة وأنشطة البحث العلمي ونقل تكنولوجيا الصناعات الدوائية، والتوصل إلى اتفاق يضمن دخول مصر إلى سلاسل الإنتاج الصينية، خاصة بعد إعلان الرئيس الصيني نية إنشاء مراكز لوجستية وفروع لكبرى شركاتها الصناعية في المنطقتين العربية والإفريقية.
ومن الضروري أن تقوم وزارة المالية المصرية بالإسراع في تفعيل بنود اتفاقية 2016 الموقعة بين مصر والصين لإصدار سندات مصرية بـ (اليوان) الصيني في البنوك المحلية في إطار تنويع مصادر التمويل وجذب الاستثمارات التنموية.