اللى بنى مصر.. محمد بيومي: رائد السينما المصرية (الحلقة الثانية)

السبت، 18 مايو 2024 08:00 م
اللى بنى مصر.. محمد بيومي: رائد السينما المصرية (الحلقة الثانية)
محمد بيومي- رائد السينما المصرية
محمد الشرقاوى

- قصة الشاب الذى بدأ تمصير الشاشة وأسَّس البنية التحتية للفن السينمائى بالمعاهد والصحافة المتخصصة

- بيومى قدم أواخر 1922 الفيلم الروائى القصير «برسوم يبحث عن وظيفة».. وأقنع طلعت حرب بتأسيس قسم للسينما تحت اسم «مصر فيلم»
 
يزخر تاريخ مصر الحديث ببناة النهضة والحضارة، أحفاد بناة الأهرامات، أولئك الذين كتبوا بآمالهم تاريخا جديدا، حملوا الرسالة كالأنبياء، ورسموا طريقا للمستقبل.. نراهم ونعرفهم وكأنهم بيننا الآن، صورهم على جدران المؤسسات الوطنية، وأسماؤهم على لافتات الميادين العامة والمدارس والمؤسسات، والمحاور، والمدن أيضا.
 
نشأ بناة الحضارة الجدد بيننا، وعاشوا خفافا على مقربة منا، فى بيوتنا، وفى حارتنا، وهذه القرية المجاورة، وتلك البعيدة، أتقنوا تخصصاتهم، حتى صاروا آباء لها. ونحن فى «صوت الأمة» وضمن سلسلة «اللى بنى مصر» نكتب للتاريخ، ولهذه الأجيال، نحيى فيهم الأمل، ونخط لهم مسارات المستقبل.
 
للسينما المصرية حكايات غير التى حكتها، حكايات يعرفها العامة، وحكايات يعرفها المتخصصون فقط، ومن بين الحكايات حكاية بدأت أواخر عام 1922، حين ظهر فيلم روائى قصير بعنوان «برسوم يبحث عن وظيفة»، يعالج معاناة المصريين مع البوليس السياسى التابع للاحتلال البريطاني.
 
الفيلم كان بداية الطريق للسينما المصرية، فهو أول عمل سينمائى متكامل يصوره ويخرجه مصري، يدعى محمد بيومي، واضع اللبنة الأولى، فمن هو؟
 
ولد بيومى فى طنطا عام 1894، وحصل على الشهادة الابتدائية وهو فى عمر 17 عام، ظهر نبوغه فى عمر الـ12، فكان من أوائل الأشخاص الذين امتلكوا آلة تصوير فوتوغرافية، التى تحولت مع الوقت لمهنة يقتات بها، وذاع صيته فى طنطا والمدن المحيطة بها.
 
بدأت حياة الفتى العامة مبكرا، حيث انضم مبكرا إلى الحزب الوطنى قبل حصوله على الشهادة الابتدائية، بل كان عضوا عاملا، وتحول لمعارض شرس للاحتلال، ثم التحق بيومى بالكلية الحربية بعد حصوله على الشهادة الابتدائية مباشرة، وزاد کرهه للاحتلال وسجل مذكراته خلال فترة الدراسة بالكلية الحربية وأطلق عليها «الشريط الأحمر.. الجيش المصرى فى عهد الاحتلال البريطاني»، لكن سرعان ما انتهت خدمته بعد تخرجه بثلاث سنوات من الكلية الحربية.
 
تخلص الاحتلال من بيومى بسرعة عام 1918، بعدما قاد حركة عصيان وحرض الجنود المصريين على عدم تقديم التحية للقائد البريطاني، وكذلك قيادته لإضراب عام فى الجيش المصرى بسبب طلب القائد البريطانى من الجنود ارتداء العمامة بدلا من الطربوش داخل الأراضى السودانية، حيث رفض بيومى هذا الطلب بشدة وسجل فى مذكراته أن الاحتلال كان يسعى لتصوير الجنود المصريين على أنهم جنود احتلال للسودانيين. 
 
الطريق نحو السينما
 
بعد عزله من الجيش، عمل بيومى فى ورش لصنع الأثاث المنزلي، لكن لم تستمر هذه المرحلة طويلا، فثورة 1919 قامت، وصارت أمام بيومى فرصة لإحياء حلمه القديم الخاص بالتصوير، وأطلق عام 1919، مجلة سياسية باسم «المقص»، وكان الهدف منها التحريض على التحرك الشعبى والثورة ضد الإنجليز.
فى نفس العام شكل فرقة مسرحية باسم «فرقة وادى النيل» بالاشتراك مع بشارة واكيم لتقديم المسرحيات السياسية على مسرح رشدى بالإسكندرية، وبعد انتهاء 1919 قرر السفر إلى أوروبا فى رحلة جديدة استغرقت عام كامل وتزوج هناك.
 
وخلال رحلته لألمانيا تم التعرف على صناعة السينما بشكل أكبر، وعاد مجددا إلى مصر، وسافر مرة أخرى لدراسة تقنيات صناعة السينما، ليعود مرة أخرى عام 1921 ومعه عضوية رسمية فى اتحاد السينمائيين المحترفين بالنمسا، ومعدات سينمائية من أحدث طراز ليبدأ مشواره السينمائى فى مصر. 
 
فى ألمانيا عمل بيومى ممثلا فى الأدوار الثانوية بشركة «جلوريا فيلم»، كما عمل مساعد مصور خلف الكاميرا، وتعرف على المصور الألمانى «بارنجر» الذى ساعده فى شراء المعدات اللازمة لتأسيس استوديو سينمائى صغير فى مصر.
 
أسس بيومى فور عودته «استوديو آمون»، أول ستوديو سينمائى مصري، ومعه أصدر جريدة آمون معنية بأخبار الفن، وكانت أول إصدارات الاستوديو فيلم «عودة الزعيم سعد زغلول» من المنفى عام 1921، وأنتج أول فيلم عن سعد زغلول افتتحه بصوت سيد درويش «بلادى بلادى» لتبدأ بذلك الحكاية.
كان الفيلم الصامت «برسوم يبحث عن وظيفة» ثانى الأعمال، من إنتاج محمد بيومى (تأليف وكتابة وسيناريو وتصوير وإخراج ومونتاج وتحميض)، من بطولة بشارة واكيم صديق رحلته، وبعد ذلك قدم أربعة أفلام روائية للسينما المصرية وهم «الباشكاتب عام 1924، الضحية عام 1928 الخطيب نمرة 13 عام 1933، ليلة فى العمر 1934».
 
سافر بيومى إلى أوروبا، وعاد مرة أخرى لمصر فى 1937 بعد قرار الملك فاروق بإعادة الضباط الذين تخلص منهم الاحتلال البريطانى عن طريق الاستيداع (المعاش)، لكن العودة خيبت آمال المناضل بيومي، فقد كان يحلم بجيش يقوده المصريين بعيدا عن الإنجليز، ويقال مرة أخرى من الجيش بعد أن كشف حصول مدیر مصلحة الحدود على أراضى دون وجه حق بوضع اليد.
 
وبعد خروجه من الخدمة أسس مرة أخرى استوديو سينمائى للإعلانات التجارية، ولكن توقفت الرحلة بسبب حرب فلسطين عام 1948، وتطوع بيومى فى صفوف الجيش المصرى للدفاع عن الأراضى الفلسطينية.
 
وبعد انتهاء الحرب قرر بيومى العودة مرة أخرى للتصوير ويقرر تأسيس مصنع للفيلم الخام والعدسات فى مصر، وبالفعل سافر إلى أوروبا ليدرس التصوير الملون وصناعة العدسات، لكنه عاد عام 1956 ليفاجئ بتجميد أمواله بسبب التأميم، ليصاب بعدها بالشلل، ويتوفى عام 1965 فى مستشفى المواساة المجانى بالإسكندرية.
 
أوراق محمد بيومي
 
المخرج السينمائى الدكتور محمد كامل القليوبى ألقى الضوء على حياة بيومي، فى كتابه «أوراق محمد بيومي» الصادر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، ويتضمن أوراق ورسائل خاصة نشرت لأول مرة بعد مرور ستين عاما على وفاته، ويؤكد الكتاب أن بيومى كان رائدا للسينما المصرية، حيث أسهم بشكل حاسم فى العديد من الأفلام، وأسَّس البنية التحتية لهذا الفن الجديد من خلال المعاهد والصحافة المتخصصة. ومع ذلك، فقد عاش بيومى حياة تهميشية ومات دون أن يُعرَف إلا نادرا.
 
وفى مطلع 1925، التقى محمد بيومى بالاقتصادى الكبير طلعت حرب، وعرض عليه فكرة تصوير فيلم عن إنشاء المبنى الجديد لـ«بنك مصر» الذى أسسه حرب كجزء من مساعيه لبناء اقتصاد وطنى مستقل. 
 
أقنع بيومى، طلعت حرب بتأسيس قسم للسينما تحت اسم «مصر فيلم»، حيث اشترى البنك معدات بيومى السينمائية مقابل 244 جنيها و915 مليما، رغم أن بيومى قدَّر قيمتها بأربعة آلاف جنيه، ووافق بيومى على هذا السعر لأنه كان يؤمن بأن نجاح مشروع السينما تحت مظلة «بنك مصر» سيضع الأساس لصناعة سينما حقيقية وسيضمن له مكانة فيها، فى العام نفسه، أسس «بنك مصر» الشركة «مصر للتمثيل والسينما»، وعيَّن محمد بيومى مديرا لها.
 
وفق الكتاب، تنوعت أفلام بيومى بنحو 18 فيلما بين الأفلام التسجيلية والروائية بأحجام مختلفة، مثل «ليلة فى العمر»، و«الباشكاتب»، و«افتتاح مقبرة توت عنخ آمون»، التى توثق لتجربة محمد بيومى الرائدة فى السينما المصرية. 
 
وكشف القليوبى فى كتابه عن تعرض أصول مذكرات محمد بيومى للسرقة، موضحا أن المخرج والمؤرخ السينمائى الراحل أحمد كامل مرسي، كان قد توصل إلى عائلة بيومى وحصل من ابنته، دولت محمد بيومى، على أصول المذكرات، بهدف تأليف كتاب عن «الرائد المجهول». 
 
وتوفى مرسى قبل أن يتمكن من إنجاز هذا العمل، وبعد وفاته، اشترت وزارة الثقافة مكتبته، وعند فحص الأوراق والكتب، وجد الناقد والمؤرخ السينمائى الراحل أحمد الحضرى مذكرات محمد بيومى فى صندوق بمنزل مرسى، وكتب على الصندوق عبارة «مهم جدا» لتمييزه عن غيره من الصناديق التى تحتوى على أوراق أخرى، ومع ذلك، عند تسلُّم الكتب والأوراق، لم يُعثر على هذا الصندوق الذى اختفى بيد خفية.
 
والتقى المؤلف السيدة دولت محمد بيومى وأسرتها، وجد نفسه غارقا بين كم هائل من الأوراق والصور الفوتوغرافية واللوحات الفنية، وانهمك فى بحث متواصل استغرق ثلاثة أعوام كاملة، من 1988 إلى 1991، تمكن خلالها من العثور على الأفلام المصرية الأولى، وهى أفلام محمد بيومى، وترميمها، وتولت «أكاديمية الفنون» تمويل هذا العمل.
 
وعثر القليوبى على نسخ كربونية من مذكرات بيومى المسروقة، وسارع بإعلان ذلك، ما أفقد اللص فرصة المتاجرة بها أو استخدامها.
 
تشكل مذكرات محمد بيومى عن طفولته نصا مميزا من نصوص السيرة الذاتية، حيث تقدم نموذجا لأسرة أبوية فى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مسلطة الضوء على القمع المنزلى الذى تعرض له الأبناء.
 
وفى المذكرات، يصف بيومى والده بأنه كان شديد القسوة، قائلا: «كان - رحمه الله - قاسيا فى معاملته لنا، إذ كان يعتقد أن هذا الأسلوب هو الأمثل للتربية التى تليق بتطلعاته، لم يكن ينظر إلينا كأطفال، بل كان يتوقع منا أن نكون مثاليين، لا نلهو ولا نخطئ، لم أذكر أنه قبَّلنى يوما، أو ابتسم فى وجهى، أو داعبنى كما يفعل الآباء مع أبنائهم، ما أذكره هو العصا التى كانت تلهب جسدى وقدمى لأقل هفوة ولأتفه سبب، كان هذا هو مفهومه للحب الأبوى، رحمه الله».
 
وتناول محمد بيومى بشكل مقتضب علاقته بالسينما فى مقدمة ديوانه «الجندى المجهول»، الذى صدر عام 1946، وهو الكتيب الوحيد الذى قام بنشره، ويقع فى أربعين صفحة من القطع الصغير. بالإضافة إلى ذلك، كتب بيومى مقالتين فقط عن السينما، الأولى بعنوان «السينما جهاد صادق»، والثانية بعنوان «نبذة عن تاريخ طلعت حرب». أما خلال حياته، فقد نُشر له مقال واحد يحمل توقيعه، وهو مقال «صوت من الماضي» فى مجلة «الكواكب» الشهرية، فى عددها الصادر فى 25 فبراير 1951، حيث تحدث فيه عن ملابسات دراسته للسينما فى ألمانيا، وأحدث المقال التباسا كبيرا، حيث ذكر فيه أنه بدأ فى إخراج فيلم كوميدى بعنوان «المعلم برسوم يبحث عن وظيفة» وأن ابنه، الذى كان ملك بطولة الفيلم، توفى أثناء تصويره، ما أصابه بصدمة شديدة وجعله يتوقف عن العمل فى الفيلم.
 
ويوضح المؤلف أن الفيلم، عندما تم العثور عليه ومشاهدته، كان بعنوان «برسوم يبحث عن وظيفة»، ولم يكن ابن بيومى قد ظهر فى أى لقطة من العمل. بالإضافة إلى ذلك، فإن بيومى لم يشير إلى أى شيء عن أفلامه السينمائية، بما فى ذلك فيلمه الروائى الطويل «الخطيب نمرة 13» الذى عُرض فى عام 1933.
 
أين هى أفلام بيومى؟
 
يقول الكاتب الصحفى سيد محمود سلام فى مقالته: « محمد بيومي.. نظرة إلى تراث عمود خيمة السينما المصرية!»، إن المدهش أنه بعد محاولات إنعاش سينما محمد بيومى من خلال الدراسات التى أعدها عنه قبل رحيله، لم يتم البحث عما فقد من تراث بيومي، فهو لم يكن فقط مخرجا أو مؤلفا، بل صانع للسينما، وهو أول من قدم سينما مصرية خالصة بعد تجارب أجنبية.
 
وأضاف سلام، فى المقالة المنشورة بتاريخ 17 سبتمبر 2022، أن تاريخ السينما المصرية بدأ على أيدى صناع غير مصريين، أمثال بدر وغبراهيم لاما، وهما فلسطينيان، ويمكن اعتبار محمد بيومى عمود خيمة السينما المصرية، ونحن بحاجة للبحث عما قدمه ووضعه فى متاحف السينما، والاحتفاء به، ليس سينمائيا فقط، بل صور افتتاح أولمبياد رياضية ومباراة المنتخب القاهرى ومنتخب هاكو لكرة القدم، وجنازة السيرلى ستاك حاكم إقليم السودان، وبعثة الوفد المصرى بقيادة النحاس باشا للتفاوض باسم مصر.
 
ناهيك عن أعماله المهمة والتى تعد وثائق، لم يقم أحد بتحليل دقيق لأفلامه الصامتة، ومنها تركيزه على البطالة فى فترة الثلاثينيات، قدم فى فيلمه: «برسوم يبحث عن وظيفة» صورة للتعايش بين الأديان، أسند دور الشيخ متولي، برغم أنه قبطي، وأسند شخصية برسوم القبطى للمثل عادل حميد، وقدم تعايشا فى الهم الواحد؛ حيث قاما معا بالبحث عن وظيفة، بل قدم فى فيلمه «الخطيب نمرة 13» كوميديا رائعة، عن رجل يعلن عن وظيفة بنى آدم، سابقا عصره، الفكرة قدمت من سنوات فى فيلم «الرجل الذى باع ظهره» للمخرجة كوثر بنت هنية، أعمال محمد بيومى سبقت عصرها، تاريخه الطويل ومسيرته تحتاج إلى إعادة قراءة.. وما قام به مهرجان راكودا يعد مثالا يحتذى به فى إنعاش ذاكرة تراثنا من جديد. 
 
واختتم: «أين هى أفلام محمد بيومي؟ أين أعماله المصورة؟ هل توجد نسخ أصلية منها فى المركز القومى للسينما؟ ولماذا لا يقام معرض لأعماله فى أكاديمية الفنون، وتدرس للطلبة، كيف سافر وعاد بمعدات التصوير ولم ييأس من الضغوط المستمرة التى مورست عليه كطالب فى المدرسة الحربية أيام الإنجليز ورفض الاستمرار لشعوره بأنه يقدم خدمات لهم.. تاريخ يحتاج إلى نظرة من جهات عدة ـ فى مقدمتها وزارة الثقافة».
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق