الدكتور إبراهيم نجم يكتب لـ«صوت الأمة»: الحشاشين وامتداداتهم الجديدة
السبت، 13 أبريل 2024 07:53 م
كثير من الفرق والجماعات الهدامة لازالت تعيش بيننا وتلبس ثيابًا أخري جديدة وتجدد اسمائها وعناوينها
جماعات التطرف اسرفت في وصف علماء المسلمين بالجهل ويستخدمون العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين لاستغلال العامة والبسطاء
دار الإفتاء تستعد لإطلاق مشروع عصري راقي وتأسيس أكاديمية تدريبية مستقلة لمواجهة التطرف بأشكلة المختلفة
وضعت دار الإفتاء المصرية عبر تاريخها الحديث منهج تاريخي فريد، من خلال استقراء أحداث ومناهج وأفكار أهل الفرق والأهواء القديمة، مقارنة بما وصلت إليه جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، وكان القاسم المشترك مع كل أهل النحل والأهواء في عصور الفتن الماضية هو الخروج علي أئمة المسلمين وجماعاتهم، وكانت معظم هذه الدعوات تحت شعارات الإصلاح، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع الظلم والجور، والغيرة علي الدين وعلي مصالح العباد، مما يلبس الحق بالباطل والهدي بالضلل.
لذلك جاءت منهجية دراسة الفرق والحركات السرية والباطنية القديمة وجماعات الإسلام السياسي الحديثة من هذا الطريق الجديد، وفق معايير علمية رصينة صكها أهل العلم والتخصص، واستمسك علماء الدار بمنهجية قراءة فرق الخوارج والقرامطة والحشاشين، علي ضوء دراسة الهدي النبوي القويم ونهج السلف وعلماء الصراط المستقيم.
وكان الهدف من دراسة وتدريس هذه الفرق والجماعات الهدامة أن يكون المسلم على بينة من عقائدها، وحتي لا ينخدع بكلامهم وأفعالهم، حتي وإن ذكرت في كتب المتأثرين بهذه الفرق أو كتب أتباعهم المعاصرين يكون مداخلهم إلي عالم الوجود من جديد مكشوف وظاهر، وليتعرف الجميع كيف تم تطويع هذه الافكار إلي اغراضهم السياسية من خلال الدليل المبتور والمبتسر.
ولأن كثير من أفكار هذه الفرق والحركات تتجدد وتلبس ثيابًا أخري غير التي كانت تلبسها سابقًا، أو تجدد اسمائها وعناوينها وكل يوم يظهر في هذا العالم جديد يدعوا إلي أفكار قديمة، لذلك حذرت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم من خلال "الدليل المرجعي لمواجهة التطرف.. مدخل عام في فهم التطرف واستراتيجيات مواجهته" من هذه الفرق القديمة الجديدة، وبينت أن كثير من هذه الفرق لازالت تعيش بيننا، بعضها يتوسع علي حساب الدين والوطن، وبعضها في الدول التي فقدت جيوشها وانظمتها وكياناتها القانونية والإدارية .
ووضعت الدار خريطة لكل فرقة من حيث نشأتها ومحطات تأثيرها ومؤلفاتها وسرديات أفكارها، وجمعت كل كتبهم وأيديولوجيات قادتها قديمًا وحديثًا، بل وسعت لدراسة امتداداتهم الفكرية في العصر الحديث، فما من جماعة سياسية من هذه الحركة المتطرفة إلا ولها جذور في الماضي السحيق عرفت وتصدي لها علماء المسلمين الثقات المخلصين.
كان هدف هذا المنهج بيان الصفة أو الصفات التي لو وجدت في شخص أو قوم او جماعة أو تنظيم لحق بالخوارج حكمًا، واخذو حكم الخوارج شرعًا وهو ما يعرف بمناط العلة في الشريعة الإسلامية من حيث التعامل معهم "القيد الأخير خروجاً من الجدل السفسطائي والخلاف اللفظي"، بمعنى: لا يهمنا كثير ا ماذا نسيمهم؟ بقدر ما يهمنا كيف نتعامل معهم؟ وهل تتالوهم الأحكام التي في الأحاديث أم لا؟، خاصة لو يتأكد لنا وعرفنا أن معظم الأحاديث الواردة فيهم لم تذكر تسميتهم بالخوارج، بل هو اسم صكه علماء الفقه والعقيدة والسير والتاريخ عبر القرون الماضية، فيصبح كل من يكفر أهل السنة وجماعة المسلمين، ويخرجون بالسلاح علي مجتمعهم من أهل البدع تلحقهم أحكام الخوارج وأهل الغلو، فلو زادوا بدعًا أخري غير التكفير يصبحون خوارج وزيادة، حيث زادوا على مناط علة الخوارج مناطات أخرى زادتهم شرًا على شر، كذلك أجرينا على جماعات الإسلام السياسي المعاصرة ما جري على أحداث وسير وفتن أقمها الخوارج وأهل الفرق، فاستحقوا أن تنسحب عليهم نفس التسميات التي اطلقها علماء المسلمين ومؤرخيهم عليهم.
سعت الدار لتكوين مراكزها ومشروعاتها العلمية والفكرية بمنهجية رصينة اعتمدت علي التاريخ المقارن وسيسيولوجيا الفتوى وتأثيراتها المعاصرة داخل كل الكيانات والتنظيمية الحديثة والمعاصرة، فوقعت على كتب "عبدان الكاتب أو الداعية" الذي وضع عشرة كتب عن القرامطة والاسماعيلية، ودرست أفكار الحشاشين وامتداداتهم حتي الأغاخان في الهند وأوروبا، وتتبعت جماعات داعش والقاعدة منذ ظهورها وتلبسهم هاتف خلافة الخوارج وجمعاتهم من العصر الإسلامي الأول.
لقد اتفق الجميع من أهل الملل والنحل والأهواء الضالة علي تكفير علي وعثمان وأصحاب موقعة الجمل، وعلى العداء لجماعة المسلمين فتعرضوا لسخط كافة الحكومات والدول الإسلامية وامتد خطرهم حتي وصلوا لجماعة "التكفير والهجرة" في السبعينيات من القرن الفائت، فتركو البلاد والعباد ورحلوا إلي الجبال والقلاع المحصنة يدعون لعقيدتهم الفاسدة وتنظيمهم الذي جند عناصر شبابية علي آلات القتل البشعة التي انتهت بقتل علماء وساسة ووزراء، بل وكل من انشقوا عليهم كونوا لهم كتيبة موت اطلقوا عليها "الكتيبة الخضراء"، واعتبرت هذه الجماعة كل تنظيم ومجموعة غيرهم فرقة كافرة ومارقة، بل واجروا عليهم أحكام الخوارج بعلة فاسدة تلبيستهم، وعاملت انصارها معاملة الكفار فاستباحوا الدماء والأموال والذراري بدون وجه حق.
وعت منهجية الدار الفوارق بين الحركة الفقهية الإسلامية وما حدث للمذاهب وما آلت إليه لحالة التعصب، وهي من الظواهر المؤسفة في التاريخ الإسلامي من تعصب الفقيه لمذهبه وتجريحه لمذهب غيره، وتوجيه الطعون له، وكيف تعامل مؤسسو المذاهب مع غيرهم، والذي أدي إلي خلافات جوهرية وتقاتل وعداء، ومن هنا اخذت الدار بالإجماع والتعدد الفقهي المناسب للعصر والواقع وفق ما توصلت له كافة التخصصات والاروقة العلمية داخل مؤسستنا، مستخدمة أحدث العلوم والتقنيات الحديثة من الرقمنة والذكاء الاصطناعي والتبويبات العلمية والمنهجية المختلفة.
لقد اسرفت جماعات التطرف في وصف علماء المسلمين تارة بالجهل وتارة بعلماء السلطان وتارة بعلماء الشيطان، واستغلال العامة والبسطاء في زمن تعددت فيه كافة وسائل الإعلام واصبح الأنترنت المظلم هو الذي يسود، وعالم الاعتدال والوسطية والسلام غائب عن المشهد، وسط مشهد دموي حالك من الاحتلال الإسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني المناضل، مما ينذر كما أكدت تقارير دولية مثل مكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية الصادر في 11 مارس 2024، في تقريره السنوي عن التهديدات العالمية الأكثر إلحاحاً للمصالح العالمية في المرحلة القادمة بفعل الاعتداء علي الشعب الفلسطيني بهذه الطريقة، مما ينذر بعودة الفرق القديمة بلباس عصري جديد وحديث.
أسرف انصار التشدد والتطرف في استخدام العنف، وتشدد اكثر زعماء التنظيمات في قبول البيعة والهجرة، وسار هؤلاء علي نهج اتباع الخوارج القدامى في نهج باطني سري خبيث ساد هؤلاء بشكل مخيف ودموي وانتقامي فيما بعد.
ومن هنا استوعبت تجربة منهجية الدار ما وضعه علماء مصريون من مؤلفات وكتب هامة في هذا الصد، مثل كتاب "ملخص تاريخ الخوارج منذ ظهورهم إلي أن شتت المهلب شملهم" لمحمد شريف سليم، ناظر مدرسة دار العلوم والذي وضع معجم للبلاد التي سيطر عليها الخوارج والشخصيات الخوارجية عبر التاريخ، وسار علي هدية الكثرين من دارسي التاريخ الإسلامي، بل وسار علي نفس النهج بمنهجية شافية راقية ضافية اساتذة في التاريخ الحديث والمعاصر في دراسة أهل الغلو والتطرف في عصرنا الحالي.
بل واهتمت الدار بدراسة أصول الفكر المتطرف الحديث منذ نشأت جماعة الإخوان حتي ظهور القاعدة، وبيعة التنظيم للقادة الجهاد الافغاني وانشقاقهم بفعل الخلافات حول البيعة إلي داعش، ومن داعش إلي دواعش عدة وتنظيمات فرعية ارست تاريخ الانشقاقات الكبيرة إلي صغيرة ومنها إلي فرعية حول فكرة الولاء والبراء والعذر بالجهل وشرعية قبول المصالحات والمراجعات الفكرية.
ضمن هذا السياق اتخذت معظم هذه الحركات الدينية المتطرفة رؤي ألفية للعالم وللكون وتملكها إحساس بانتظار نهاية العالم، واستحوذ علي اتباعها النزول لأرض قصية وهي علامات علي عهد قطعه الرب معهم، وهدف بعيد بتضحيات جسام في اعقاب مسيرة عسيرة يجتاز فيها التابعين فيافي خضراء من سندس لكي يعود الأمير المنتظر وتعود الخلافة الراشدة، وتطلع أتباعهم من خلال ذلك إلى إمكانية تغيير مسار الحوادث والأوضاع المحيطة في العالم واتخذت من الازمات والحروب مواطن استعاده لنشاطها وأوجه قوتها من جديد.
منهجيات قراءة الفرق والجماعات القديمة والحديثة صكته الأمانة العامة بالدار، وتعمل من خلاله علي عدة مشروعات سوف تخرج إلي النور قريبًا وبشكل عصري راقي، نؤسس من خلاله أكاديمية تدريبية مستقلة لمواجهة التطرف بأشكلة المختلفة، وهو فرع من التخصص الهام والنادر الذي تحتاجه مؤسساتنا العلمية والتعليمية في وقتنا الراهن.