في شهر ميلاده ورحيله نتذكر وصايا الخال عبد الرحمن الأبنودي
الأربعاء، 17 أبريل 2024 10:14 ص
في شهر ميلاده ورحيله نتذكر وصايا الخال عبد الرحمن الأبنودي
إن كان أبريل شهر تفتح الزهور فهو شهر الأبنودي بامتياز ولذا يطيب لي أن أحكي عن العم والخال
نشرت قبل سنوات مقالًا كتبته تحت عنوان "اللعنة على قطاراتي"، كان مقالي عن جانب من جوانب علاقتي بمشاهير الأدب، وذكرت فيه اسمين عزيزين، يوسف إدريس ونجيب محفوظ.
كتبت: "تنطلق قطاراتي بسرعة خرافية تدهشني، ثم فجأة تتعطل، وعندما تصل إلى محطتها النهائية، تكون قد سجلتْ رقماً قياسياً في التأخر، تصل قطاراتي دائماً ليلاً، حيث لا يكون في استقبالها سوى ظلال أشجار بائسة تبدو كأشباح، وأرصفة خاوية تكنسها رياح الليل الباردة
كنتُ أمر من أمام مبنى جريدة الأهرام، لحظة أن كان هو يهبط سلمها الخارجي منحدراً إلى الشارع، كان ملاكا أبيض (يرتدى بذلة صيفية بيضاء وجورب أبيض وحذاء أبيض) حتى شعره كان قد غادر شقرته وأصبح ناصع البياض.. كان يمسك بين أصابع يمناه بفرع صغير من شجرة (ربما كانت السيسبان) الفرع الصغير لا يزال يحتفظ بنداوة خضرته، كان يهبط واثقاً مثل ملك ويصفر بفمه لحن أغنية عبد الوهاب (يا مسافر وحدك).
كان صفيره منتظماً متقناً لا نشاز فيه، اندفعتْ إليه قطاراتي، تلك فرصة لن أفلتها، هذا هو يوسف إدريس، وهذا أنا عاشقه، ليس هناك من معجبين ولا أضواء كاميرات، الموقف مجرد من كل زخرف أو ضجيج. ليس هناك سوى كاتب يصفر لحناً، وقارئ يسيل الحب على جوانب قلبه.
شكراً لقطاراتي لقد أقلتني حتى وقفت أمامه تماماً. مددتُ يميني، فنقل الفرع الصغير من يمينه ليسراه.
ـ أهلاً يا دكتور.
ـ أهلاً يا حبيبي إزيك؟
ثم تعطلت القطارات اللعينة، يمينه تقبض على يمنى وعيناي معلقتان بوجهه الوسيم الباسم، لكن لساني أصبح كقطاراتي معطلاً.
مرتْ نصف دقيقة على خرسي، أفلت الرجل يدي ثم ضربني ضربة خفيفة بفرعه الأخضر على رأسي، وأنطلق يكمل صفير لحنه، عابراً الشارع بخطوات ملك وسيم. هل رماني بنظرة تعنى أنى مخبول؟
أم أنا الآن أتخيل أنه نظر لي معاتباً ومندهشاً.
هل من حقي الآن فلسفة خرسي بدعوى أن دفقة حب قد أصابت لساني بالشلل؟
وعن نجيب محفوظ كتبت: "كان نجيب محفوظ متاحاً كالماء والهواء وباقياً كأنه النيل، لذا لم استعجل مقابلته، سأقابله متى أردتُ فالرجل متاح كالماء والهواء وباقٍ كأنه النيل.
طعنه مخبولٌ في رقبته، فقلت سينجو وسأقابله متى أردتُ، ثم تكالبتْ عليه أيام الزمن، فقلت لن تنال منه وسأقابله متى أردتُ.
قبل رحيله بثلاثة أشهر، جاءني الصديق سعيد شعيب وقال لي: «محفوظ يريدني ليستوضح شيئا عن حواري مع محمد مهدى عاكف مرشد جماعة الإخوان، لابد وأن تكون معي".
أيامها كان الحوار يملأ الدنيا ويشغل الناس، لأن المرشد قال في الحوار: "طظ في مصر!".
ذهبت مع سعيد إلى فندق على نيل المعادي حيث كان الأستاذ يستقبل زواره.
في الاستقبال وبدون اتفاق قلنا للموظف: "نريد الأستاذ.. هكذا بدون تحديد.
ابتسم الموظف وقال: "الأستاذ محفوظ يجلس في الطابق الثالث".
فرحتُ وسعيد بموظف يعرف أن الأستاذ هو محفوظ ولا أستاذ غيره.
صعدنا إليه فوجدنا حوله جماعة من أصدقائه وتلاميذه.
كنتُ عازماً على تقبيل يده، قبلةً أودعها كل محبتي له.
في لحظة لعينة ظهرتْ قطاراتي ذات الحسابات العقلية الباردة، قلت في نفسي: "لو قبلتْ يده ربما يظن المتحلقون حوله أنى استعراضي بغيض".
ارتبكت خطواتي وسعيد ونحن على بعد أمتار من الشيخ الجليل، أراد سعيد أن أسبقه وأردت أن يسبقني، لاحظ الشيخ بحس أولاد البلد الذي لم يغادره أبداً ارتباك خطواتنا فصاح بصوت مجلجل: "بالدور يا زباين".
ضحكنا جميعاً وسلمنا عليه وجلسنا، راح سعيد يشرح للأستاذ خلفيات الحوار مع مرشد الجماعة.
كان سعيد مهتماً بمعرفة حقيقة رأى الأستاذ في الجماعة.
قال الأستاذ: "ولدتُ وفدياً ووفدياً سأموت".
بعد نهاية المقابلة التي لم أفتح فمي خلالها بكلمة، نظر لي سعيد مغتاظاً: "كنتُ أنتظر تقبيلكَ ليده لكي أتشجع وأقتدى بك، لماذا لم تقبل يده؟".
سكتُّ لأن صديقي لا يعرف شيئا عن قطاراتي اللعينة.
قطاراتي اللعينة أضاعت عليّ فرص مقابلة الشيخ الإمام محمود شاكر، والعالم الفذ محمود الطناحي، والعالم الكبير محمد رجب البيومي، وغيرهم من الذين كنت أظن أن لهم خلود النيل، ثم بين ليلة وضحاها، فارقونا.
الوحيد الذي سعيت إليه وكنت في أوائل شبابي، كان العم عبد الرحمن الأبنودي.
ما سعيت إليه لأنه مشهور، لقد ذهبت إليه، كما تذهب إلى كبير لك فرقت بينكم الأيام، وأظنه قرأ ذلك المعني الذي قادني إليه، فقد منعني من مناداته بالخال، قال: أنا عمك وأنت ابن أخي.
ولد الأبنودي ورحل في شهرنا هذا، فقد في 11 أبريل 1938، ورحل في 21 أبريل 2015.
فأبريل إن كان شهر تفتح الزهور فهو شهر الأبنودي بامتياز، ولذا يطيب لي أن أحكي عن العم والخال.
كان أيامها يسكن في حي المهندسين، في شقة كقصائده، كل شيء بها حقيقي وفطري، كانت المرة الأولى التي أرى فيها "كليم" معلق على الحائط بوصفه عملًا فنيًا خارق الجمال.
عندما دخلت عليه كان بين يده مجلد فخم، وضع ريشة بين الصفحات ثم قال: فتح الله لي هذه الأيام باب قراءة الإمام الواقدي، هذا المجلد يضم كتاباته عن فتوح الشام، ما هذا الحكي يا أخي، هذه رواية عظيمة وليست كتاب في التاريخ.
لم أكن قد قرأت شيئًا للواقدي، بل كانت معرفتي به مقصورة على معرفتي باسمه وبأنه من المؤرخين القدامى.
فجأة سألني: هل قرأت الواقدي؟
الكذب مع أمثال الأبنودي سيقودك إلى مصيبة.
قلت: لم أقرأ له شيئًا ومعرفتي به بسيطة جدً.
كتم غضبه وتحدث من بين أسنانه قائلًا: في المكالمة التي طلبت فيها مني اللقاء سألتك عن تعليمك فعرفت منك أنك أزهري، أزهري لم يقرأ الواقدي! والله لو سمعك الشيخ الأبنودي الكبير لضربك على قدميك.
اسمع يا ولدي: الحياة قاسية جدًا، أقسى من أن تتخيلها، ولن ينفعك إلا ما قرأت وعرفت وتعلمت.
اقرأ ليلًا ونهارًا، اقرأ حتى تشبع، ولن تشبع من القراءة.
تلك كانت نصيحة الأبنودي الأولى، بل وصيته الأولى في لقائي الأول به.
أيامها كان مدخنًا شرهًا وكنت كذلك، لقد صنعنا خيمة من دخان السجائر.
سألته: هل للتدخين علاقة بالكتابة.
رد بحسم: هذه أكذوبة يروجها بعضهم، الفنون جميعها عملية خلق معقدة ومركبة، السجائر وكل أنواع المزاج، عادات قبيحة مهلكة، لا علاقة بينها وبين الإبداع، لقد سمع أحدنا عن الكتابة تحت تأثير مخدر، فكتب، فجاءت كتابته مثل نكش الفراخ، فلم يفعلها ثانية، لا تجعل أحدًا يخدعك عليك ويقودك إلى تلك الطرق المهلكة؟
قبل رحيله بسنة كان اللقاء الأخير، كان منتعشًا رغم حصار الأمراض له، بعد الغداء كان لا بُد من سيجارة، هو يعرف هذا، فقد كان مدخنًا عريقًا، نظر إلى مهددًا وقال: لن تدخن في حضرتي، وإن كان ولا بد فاذهب إلى الحديقة.
وأنا أغادر مجلسه جاءني صوته شاتمًا السجائر وكل أنواع المزاج التي تهلك الصحة ولا تجلب سوى الأمراض والأوهام.
ثم ماتت أمي في يناير من العام 2015، فهاتفني معزيًا، ثم قال: ابك كما تحب، فليس بعد الأم من حبيبة، ابك وسأبكي معك.
في أبريل من العام ذاته رحل لنفقد جميعًا الخال وأفقد أنا العم، عليه السلام وليبقى فنه العظيم حنانًا نأوي إليه.