أنا حيث «مقامات الغضب»!
السبت، 16 مارس 2024 08:48 م
«لكن ألفة الأيام تتوارى، حتى إحساسي بالبيت يتلاشى، تنمحي من الذاكرة كل ألفة صنعتها البهجة، الفرحة، الصخب، الحوادث المتلاحقة.. أحداث كثيرة ومواقف وضجيج مبهج لكنه مختلف». ماذا كان شعور صفاء النجار حين نسجت هذه العبارات؟ وأي حالة تلك التي تُخرِجُ هذا الإبداع؟ ففي الحقيقة بداخل كل منا غضب، نسجت خيوطه الأيام والحكايات، يتمنى لو يخرج، فيخرج في انفعالات، وحكايات، وتجاعيد الوجه، حتى تلك النتوءات في الجلد، هي بفعل نوبات الغضب.
ولكي تدرك ماهية الغضب عليك أن تنزله في مقامه، ولا تكن عليه قوي أمين، دعه يخرج، كما أخرجته «أروى»، التي الفتاة التي نبت في واديها الغضب لأسباب عدة، تجدها من شدة الوصف، لتنطقها «أروي» بالياء، من شدة ما نقلت صفاء الحالة.
«شيء في غير متزن كأني في حلزونة لا أدري هل هذه صرخات فزع أم بهجة، هناك صرخات كثيرة حولي، لكني أعرف أنني أصرخ فعلاً، وأنني خائفة ومضطربة وفاقدة لاتزاني، حامض مر يصعد من معدتي مع كل هذه الشقلبات الجديدة، لا يبدو جسدي في حالة اتزان، يتلقى ضربات من كل اتجاه، صفعات خفيفة تبدو مرحة لكنها تترك بصماتها على جلدي رضوض متدرجة الألوان بين الأصفر والأزرق والبنفسجي الغامق. بدأت الملاحظات الناقرة مبكرًا لكني لم أنتبه.. ربما في ليلتي الأولى، بعد أن وصلنا لشقتنا، أخذت أمه تدخل كل غرفة الحمامات، وفي المطبخ صرخت: ما هذه الأطباق؟».
حين تقرأ ما سبق تشعر وكأنك أنت، حين تفقد طاقتك، ويصبح كل شيء فيك يتلقى صفعة، كأنها أعدت لك خصيصًا، لكنك عاجز عن التعبير، فحكيت لـ«صفاء»، لتحكي هي حالة التخبط، وكأنك فرد في روايتها، ثم تعلل هي ما حكته؛ بقولها في موضع لاحق: «الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم.. لو أن هناك اختراعا يتمكن من تحويل كل البشر إلى مفاعلات للطاقة، السعرات المحترقة من الأجساد السمينة، الأجساد المترهلة كل الشحوم.. تتحول إلى طاقة، الكلام الصراخ، الاحتجاجات، تتحول لطاقة».
وها هي «سلوى»، مثل كثير من النساء في حياتنا، جهلن أمور كثيرة، فسقطن 9 سقطات على سلالم الحياة، من أميرة على العرش، لراضية بالواقع، وإن كان لأسباب كثيرة، إلا أن كثير من النساء لا يعرفن أنفسهن، لقلة خبرة، أو لضعف شخصية، أو استسلام حتى تستطيع التجاوز، ورافضة لكل شيء، حتى ذلك الأب المثقل بخبرات الزمن «يسري صالح»، الحاني على الأحفاد من سخط الأبناء، وترفض «سلوى» وغيرها فطنته وهدوءه، رغم تغير روح المكان وعبور الزمن.
في وسط الكلام، دللت «صاحبة المقامات» على هذه الرؤية: (أحيانا ما تبدو فكرة الراحة والثروة والرفاهية جرحا مضاعفا لجروح الآخرين، فحين أحافظ على انضباطي الدائم ومواعيد تدريب الاسكواش أو الجري في تراك) النادي، تبدو الأفعال الطبيعية وكأنها إساءة، وجرح لكل المرضى الذين يقعدهم مرضهم عن ممارسة أبسط متطلبات الحياة).
وفي مقام الحيرة، دعك من أروى، بل ضع نفسك في مقامها، واسأل نفسك ما هي الحقيقة في ظل تعدد الوجوه؟ وأين أنت من التماهي مع التكنولوجيا القاتلة؟ أصبحت لا تتحكم حتى في مشاعرك، مع تعدد التفاصيل والمشاعر والتشابكات اليومية، تحولت لآلة، أو ترس في فلك لا ينفك عنه، لو تعطل لانكسر، أو تفتت، حيث لا حدود أو فواصل لزمن منساب في أبدية لا تنتهي، «وتجد نفسك متورطا كل لحظة في تفاصيل وعلاقات ملتبسة».
وفي ظل هذا الكم من الحيرة، تجد نفسك كـ «علي قنديل» تتوق للشمس لمكان فيه ضوء، تختنق من العتمة والرطوبة، من الجحر الذي عشت فيه التلافيف والسراديب، تتوق للصف الأول؛ تتوق لأن يكون لكا بيت على الطريق الرئيسي، تشعر بمعاناة رفاقك عندما يصلون لبيتك.. فكثيرا ما ينسونك في اللعب، وتصبح عليك أن تراقب دائماً كي لا تفوتك أي متعة.
لا تختلف كثيراً عن «أروى»، تلك التي نزلت مقام الترقب، فأنت تترقب كل شيء من بعيد، قابع في «فيسبوك» أحد خنادق الترقب، ألف وجه ترتدي وأنت تراقب الآخرين، كأنهم فئران في تجربة، وإذا كنت تريد أن تصدق، فاقرأ ما كتبت صفاء: «... أختبر قدراتي التمثيلية، أشحذ همتي في التلون والتخفي، حرباء بألف لون، دون حقيقة لي، أقتبس مقولات الآخرين، ألبس رأي هذا ورأي ذلك، كلمة من هناك وإشارة من هنا، أحيانا أتوه ولا أعرف من أنا، فأعود لمخططاتي الصغيرة كأنها ورقة «البرشام» التي أغش بها في الامتحان.. في الفضاء الإلكتروني قاعدتي هي كسر القواعد والقوانين، حيث لا جاذبية ولا روابط ذاتي تتملص من ذاتي، والفرصة سانحة للكر والفر، أرتدي وأخلع كل الأقنعة وقتما أريد، أعلق ذواتي على شماعة الظروف، على الفيس تتنوع ذواتي؛ ذات زاحفة، طائرة، ثابتة كشجرة الكافور التي تطل عليها غرفتي».
يا عزيزي لا حاجة لأن تذهب بنفسك لـ«مقامات الغضب» التي تعيشها، فحين تقول صفاء: «التغيرات التي أشعر بها.. تغيرات كبيرة، ليس تغيرا في موضات اللبس أو الشعر أو السماع، لكنها تغيرات في القيم في التوجهات، في مفاهيم الأمومة، الزواج، الحب والصداقة، الدين، الله. طبيعي أن يتغير الزمن لكن ليس بمثل هذه السرعة»، هي هنا حكت كل شيء، ووضعت يدها على مشكلة ليس لها حل، في ظل السيل العالمي نحو الديمقراطية الغربية، حين أكملت: «هناك أمور لا تنفع فيها الديمقراطية مثل: تربية النشء»، وأنا اتفق معها، حتى لو تعدى الأمر لمنع الديمقراطية في كل ما له علاقة بالتقاليد، والعرف، والسمت المجتمعي، واللغة...، أكمل أنت.
أنا حيث «مقامات الغضب»، حائراً، أترقب، أجد نفسي في شخصيات الرواية، وأجد من حولي في تفاصيلها، عشت مع «صاحبة المقامات» في روايتها جولة طويلة، لم أستطع الحكي كثيراً؛ لكنها حكت، عبرت، اختزلت، أسهبت، أبدعت، لتقف معي، وتنهيها: «أكتب لك وأنا على مفترق طرق».