حمدي عبد الرحيم يكتب: الدماء الخضراء المضيئة

السبت، 20 يناير 2024 06:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: الدماء الخضراء المضيئة

- الأمة هي التي تصنع أبطالها والمقاومة هي التي تصنع قادتها وهؤلاء القادة العظماء الشهداء دمهم ليس كغيره فدمهم أخضر مضيء
 
قالت سجلات تاريخنا الإسلامي: إن العلاقة بين المسلمين الأوائل والروم سادها التوتر الحاد، لأن الروم كانوا إمبراطورية وقوى عظمى وكانوا يريدون فرض الأمر الواقع على حضارة المسلمين ودولتهم الناشئة، ولذا فقد راحوا يمارسون شتى أنواع الاستفزاز لجر المسلمين إلى معركة مفتوحة فاصلة، فما أكثر ما تعرضوا لتجارة المسلمين القادمة من الشام وقاموا بنهب القوافل.
 
وعندما حلت السنة الثامنة من الهجرة الشريفة قام رسولنا الكريم بإرسال الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي رسولاً إلى ملك بصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام، فما كان من ملك بصرى، شرحبيل بن عمرو الغساني، إلا أن قتل رسول الرسول، وكان شرحبيل من رجال الإمبراطورية الرومية، وكان يحكم باسمهم وتحت حمايتهم.
 
غضب الرسول والمسلمون لمقتل الصحابي الحارث بن عمير، لأن الرسل تحترم وتستضاف ولا تقتل، وعلى ذلك نادى الرسول بالنفير العام لقتال الروم ليؤدبهم ويعلمهم أصول السياسة والدبلوماسية.
 
لبى ثلاثة آلاف صحابي نداء الرسول، فعقد الراية لثلاثة منهم وجعل إمرتهم بالتناوب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة.
 
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته قائلاً: اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدا ولا أصحاب الصوامع.
 
نتوقف قليلًا للحديث عن أمرين مهمين، الأول أن المعركة كانت من أجل شخص واحد فقط، والأمر الثاني والأخير أن القتال في الإسلام له أسس وقواعد ولا يمكن تخطيها أو تجاهلها، وعلى رأس تلك القواعد احترام المدنيين وعدم التعرض لهم بسوء، خاصة المنقطعين للعبادة أصحاب الصوامع، مع تحريم التمثيل بالجثث وتحريم قتل الأطفال.
 
نعود إلى سياق المعركة التي نعرفها باسم غزوة مؤتة، ومؤتة الآن في المملكة الأردنية الهاشمية.
 
اختلف المؤرخون في تقدير أعداد العدو، بعضهم قال: كانوا مئتي ألف، وفريق هبط بالعدد إلى مئة ألف، ولكن هناك إجماع على أن عدد المسلمين كان ثلاثة آلاف مجاهد فقط.
 
واضح أن المعركة ليست متماثلة، وقد أبلى المسلمون بلاءً حسنًا وارتقى القادة الثلاثة شهداء، وتولى القيادة خالد بن الوليد فانسحب انسحابًا منظمًا لكيلا يخسر الجيش كله.
 
هل انتهى أمر الجيش الإسلامي بعد تلك الموقعة الدامية؟
 
هل انهارت الدولة الإسلامية؟
 
هل خاف المسلمون وتراجعوا خاضعين لعدوهم؟
 
لم يحدث شيء من هذا، بل حدث العكس، لقد تجاوز المسلمون مصيبتهم في قوادهم الثلاثة، وواصلوا كتابة أمجادهم.
 
بعد عودة جيش مؤتة المثخن بجراح استشهاد قادته الثلاثة، أرسل رسولنا الكريم بجيش يقوده الصحابي الجليل عمرو بن العاص إلى قبيلة قضاعة التي تبعد عن المدينة المنورة بقرابة الستمئة كيلو متر، وكان من جنود الجيش "مجرد جنود، الشيخان أبو بكر وعمر بن الخطاب!"، وكانت قضاعة قد تجمعت للإغارة على أطراف المدينة المنورة، وعندما تقابل الجمعان انتهت المعركة بانتصار المسلمين الكاسح!
 
نواصل تصفح سجلات تاريخنا حتى نصل إلى العام 1931، وفيه وقع القائد الفذ الشهيد عمر المختار في قبضة العدو الإيطالي الذي كان يحتل ليبيا وكان المختار يقود المقاومة الليبية ساعيًا لتحرير بلاده، بعد محاكمة صورية مضحكة حكم العدو على المختار بالإعدام شنقًا، وتم تنفيذ الحكم في ساعة عامة أمام أطفال ونساء وشيوخ ليبيا.
 
بإعدام القائد المقاوم هل انتهت المقاومة الليبية وذهبت ريحها؟
 
وقائع التاريخ تقول العكس، لقد اشتد ساعد المقاومة الليبية وفي العام 1951 تحررت كل ليبيا من الاحتلال الإيطالي وأصبحت بلدًا سيدًا حرًا مستقلًا.
 
لقد سجل التاريخ بأحرف من ذهب آخر كلمات المختار، عندما واجه الضابط الإيطالي قائلًا له: نحن قوم لا نستسلم.. ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي.
 
نختم بموقف مصري سجل بطولة فريدة لجيشنا ولقادتنا العظماء، ففي اليوم التاسع من مارس من العام 1969 ذهب الفريق عبد المنعم رياض رئيس أركان جيشنا إلى الجبهة المشتعلة، وهناك لقي ربه شهيدًا على رمال الخط الأمامي، وهذه نكبة تفوق كل النكبات، ولكن لم ينكسر إرادة القتال، ولم يسخط الشعب، بل صنع جنازة خرافية للبطل الشهيد، وبعد قليل كان يوم العبور العظيم، والذين عبروا هم تلاميذ ورفاق عبد المنعم رياض.
 
الشاهد أن الأمة هي التي تصنع أبطالها والمقاومة هي التي تصنع قادتها، وهؤلاء القادة العظماء الشهداء، دمهم ليس كغيره، فدمهم أخضر مضيء، يضيء طريق المقاومين حتى يقوده إلى النصر، وهو لعنة تطوق أعناق العدو وتزلزل عرشه.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق