يوسف أيوب يكتب: الحفاظ على الأمن القومي وسط خلل في العمود الفقري للنظام العالمي
السبت، 30 ديسمبر 2023 07:17 م
السؤال الصعب الذى بات يتردد على الالسنة.. كيف يمكن للدولة المصرية أن تحافظ على أمنها القومى وسط إقليم هو الأكثر اضطراباً، وبالتوازى مع هذا الأضطراب هناك خلل ظاهر في النظام العالمى، تكشفت ملامحه بقوة في أعقاب السابع من أكتوبر الماضى، حينما أندلعت شرارة الحرب في قطاع غزة من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهى الشرارة التى لم تصيب قلوب الفلسطينيين فقط، وإنما أصابت قلب النظام العالمى بأكمله، بعدما بدلت القوى الغربية مبادئها وأهدافها لتقف منحازة للمجازر الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين العزل.
الملمح الرئيسى لـ2023 التي أسدلت ستارها قبل يومين أنها حطمت العمود الفقري للنظام العالمي، ليس فقط في سقوط القوى الكبرى في الهاوية الأخلاقية واللانسانية، وسقوط ما أسموه النموذج الديمقراطي الغربي، لكن أيضاً بتبدل المواقع، وحدوث تغيرات جذرية في هيكل هذا النظام، امتداداً للحالة التي بدأنا بها 2023، واستكمالاً لما أفرزته جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية من تداعيات على العلاقات والسياسات الدولية.
فالتوازنات الدولية باتت مضطربة هي الأخرى، والتمسك بفكرة القوة الوحيدة المسيطرة على مسرح الاحداث، أصبحت هي الأخر محل شك، في ظل صعود قوى أخرى، ودخول عناصر جديدة إلى اللعبة، بشكل لم يكن لأحد أن يتوقعه، وربما من ينظر للحادث الأن في الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرارها طيلة هذه المدة، رغم المساندة القوية التي تلقاه أوكرانيا من أوربا والولايات المتحدة الامريكية، سيجد نفسه امام معادلة جديدة، لا تقوم فقط على عنصر القوة العسكرية، وإنما الأساس فيها هو القدرة على الصمود والمواجهة، أيا كانت طبيعة الضغوط التي تمارس، وأقصد هنا روسيا تحديداً، وحينما أتحدث عن هذا النموذج لا اتحدث منطق المنحاز لهذا الطرف، أو المتحامل على الطرف الأخر، وأنما أتحدث راصداً لواقع على الأرض، علنا نستفيده منه ونقرأ من خلاله مجريات الأحداث في مستقبل الأيام.
الواقع يقول أن روسيا كانت ولا تزال الأكثر تعرضاً للضغوط الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأوربية والأمريكية، لكنها في الوقت نفسه ظلت صامدة. نعم تكبدت ولا تزال تتكبد خسائر كثيرة، لكنها اختارت سياسة النفس الطويل في هذه المواجهة، وامامها ما حدث مع النظام السورى مثالاً واضحاً، فقد صمدت دمشق منذ 2011 وحتى اليوم أمام كل الضغوط واستطاع النظام السورى أن يكون الوحيد الباقى في مواجهة رياح "الربيع العربى" العاتية، بعدما اختار لنفسه سياسة الصبر، ووصل اليوم بعد 13 عاماً من اندلاع القتال والحرب الإهلية في سوريا إلى وضع جيد بالنسبة له، فكل الدول التي كانت تعادى النظام السورى ها هي تذهب إليه اليوم طالبة فتح صفحة جديدة. هذا ربما هو النموذج الذى تريده موسكو، وهى الادرى به كونها شاركت في صياغته مع السوريين، لذلك فإنها قادرة على ممارسة الصبر إلى أقصى درجة.
وما علاقة الصبر بالنظام العالمى؟
العلاقة قوية، فالنظام العالمى اعتمد لسنوات طويلة على فكرة واحدة "العصا والجزرة"، فبأيهما تستطيع القوى الكبرى وتحديداً الولايات المتحدة الامريكية تنفيذ رغبتها، ولم يقف أمامها الا نموذج واحد، وهو الصبر الذى مارسته سوريا وها هي روسيا تمارسه اليوم. هو نموذج لا يشكك فقط في أدوات وأساليب النظام العالمى وفاعليتها، بل يقضى على ما يملكه من رصيد ثقة.
يضاف إلى ذلك أيضاً أن الخلل وصل إلى الدول الكبرى وفى القلب منها الولايات المتحدة الامريكية، التي باتت للمتابعين لأدائها اقل قوة وتأثيراً مما كان لها في السابق، لاسباب داخلية بحته، يضاف إليها بطبيعة الحال ظهور قوى دولية أخرى كانت تعد نفسها لسنوات طويلة ليكون ظهورها على المسرح العالمى قوياً ومؤثراً، ومستندة إلى اقتصاد يمكنها من الانتشار والتغلغل، وأيضاً القدرة على التأثير، وأقصد هنا تحديداً الصين، ومعها لكن ليس بنفس الدرجة أوربا، بما تضمه من دول لازال يداعبها حلم مناطفة واشنطن في القوة والتأثير، والمقصود هنا بطبيعة الحال ألمانيا.
كما أن ظهور تكتلات دولية جديدة، تضم في عضويتها دولا ذات حضور وتأثير، وفى نفس الوقت تستقطب دولاً أخرى، أدى إلى حدوث تغيير فى المشهد العالمى، فعلى سبيل المثال أصبح تحالف "بريكس" الذى كان يضم 5 دول "روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا"، وأنضمت إليهم بداية من هذا العام 6 دول جديدة، هي مصر والأرجنتين وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات، بما تحولا تاريخيا سيغير من تركيبة مجموعة "بريكس"وسيزيد من نفوذها وقدراتها الاقتصادية بشكل كبير، في مواجهة مجموعات وتحالفت أخرى على غرار مجموعة العشرين والسبع الكبار وغيرها، بل أن الأمل معقود على أن ينتج بريكس كيانات اقتصادية دولية موازية لصندوق النقد الدولى او البنك الدولى، وهو أمر أن حدث سيكون بداية انهيار قوى للنظام العالمى.
وبالتوازى مع كل ذلك، ظهرت نظريات أمنيةة جديدة، وسقطت أخرى كانت تظن انها لا تسقط مطلقاً، وخير دليل على ذلك ما حدث في 7 أكتوبر التي أسقطت نظرية الامن الإسرائيلي، وجعلت السؤال في إسرائيل، متى نكون آمنين؟
هذا بعض من ملامح مشهد دولى معقد، بل شديد التعقيد، يشهد سقوط نظريات وظهور أخرى جديدة، ويلعب فيه الاقتصاد دوراً كبيراً.
اذن كيف ستحافظ الدولة المصرية على أمنها القومى وسط هذا المشهد؟
الإجابة على هذا السؤال تقتضى العودة إلى الوراء قليلاً، تحديداً في 2014، لنرى المشهد كيف كان، ثم نعود ونقارنه بمشهد اليوم، لنصل إلى الإجابة المبدئية المتعلقة بهل حافظت الدولة على امنها القومى أم لا؟
في 2014 كانت تعانى الدولة إرهاباً في كل مكان، وانهيار لكافة مؤسسات الدولة، وغياب تام لفكرة الدولة الوطنية، بعدما عمدت الجماعة الإرهابية إلى ضرب فكرة الهوية الوطنية المصرية، وتصدير أفكار غريبة على المجتمع المصرى، وكان الحال حينها غريباً على المصريين، فلم يكن أيا منا أمنا في بيته أو حياته أو ماله، وكنا جميعاً على شفا الانهيار.
وسط كل هذا الوضع المتشاءوم اختار المصريين الرئيس السيسى رئيساً لمصر، والحق انه لم يكن اختياراً وإنما استدعاءا شعبياً لشخص رأه المصريين أنه القادر على تصحيح مسار الدولة، ومجابهة كافة التحديات، بقوة وقدرة وحسم، لما لا، وهذا الشخص هو من وقف بقوة في وجه الجماعة الإرهابية، ليقول لهم في عز قوتهم وجبروتهم، أن مصر أبداً لن تسقط، وأن حياته فداء لمصر وللمصريين.
بعد الاستدعاء الشعبى للرئيس السيسى، بدأت التحول في مسار ومسيرة الدولة، وبدأ المصريين يشعرون أنهم استعادوا دولتهم، التي كانت مختطفة، فبدأت يد التطوير والتنمية تصل إلى كل شبر في مصر، وبدأت الدولة أكبر وأضخم حرب لمواجهة الإرهاب، الذى أراد ان يتخذ من مصر منطلقاً للانتشار إقليميا ودولياً، ورغم التهاون الدولى مع التهديد الإرهابى الذى كانت تواجهه مصر، الا ان القيادة المصرية لم تيأس او تستسلم، بل واصلت حربها دون هواده، معتمدة على أقوى تحالف في تاريخ الدولة المصرية، وهو تحالف الشعب والمؤسسات، فكانت المجابهة والمواجهة بالفعل شاملة.
شاملة من حيث التحالف الشعبى مع مؤسسات الدولة، وأيضاً شاملة من المنظور العملى، فلم تقتصر المواجهة على الجانب الأمني، بل كانت الفكرة المصرية في 2014 أن التنمية الشاملة هي أحد أساليب الحرب على الإرهاب، لذلك كانت يد التنمية ممدودة في كل قرية ومدينة، وأطلقت العديد من المبادرات الرئاسية، وصولاً للمبادرة التنموية الأضخم عالمياً، والمتمثلة في "حياة كريمة"، التي غيرت قولاً وفعلا شكل القرية المصرية، وتوازى ذلك مع المعركة الفكرية التي خاضتها الدولة في مواجهة الأفكار المتطرفة والمتشددة، ووصل الامر إلى ان التجربة المصرية باتت محل نقاش وتقدير دولى، كونها كانت شاملة وجامعة.
ومن الداخل انتقلت الدولة إلى الخارج وهدفها الرئيسى الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، وأطفاء الحجرائق الإقليمية والدولية، من خلال سياسة خارجية متوازنة، تدرك جيدا محددات الامن القومى، وتؤمن ان الحفاظ عليه يتطلب الحفاظ على المؤسسات الوطنية في الدول، لذلك تبنت القاهرة سياسة خارجية محترمة، لا تقبل التدخل في الشئون الداخلية للدول، وتعمل على التقريب وليس الخلاف أو البعد، وهو ما أوجد لمصر مكانة رفيعة المستوى في محيطها الإقليمى، وبات لها كلمة مسموعة عالمياً.
هذا باختصار شديد ما حدث طيلة السنوات العشر الماضية، والتي كانت شاهدة على التحول الكبير في شكل ومسار ومسيرة الدولة المصرية، من دولة تعانى الأهمال، وتتهددها المخاطر داخلياً وخارجياً، إلى دولة قوية لها وجود وتواجد، والأهم دولة متماسكة داخلياً.
اذا ما نظرنا إلى ما سبق يمكن وقتها الإجابة على سؤال كيف ستحافظ الدولة المصرية على أمنها القومى وسط هذا المشهد؟
نعم هو مشهد صعب، وكل التوقعات تشير إلى سيناريوهات سيئة وقاتمة في المحيط الدولى والاقليمى، خاصة على حدودنا الملتهبة، وتحديداً الحدود الشرقية التي تشهد قضية من أصعب القضايا الدولية، بل أعقدها، وأقصد بها القضية الفلسطينية، بما لها من تداعيات مباشرة على الدولة المصرية وامنها القومى، وليس اقلها ما ظهر خلال الحرب الإسرائيلية المتواصلة ضد اشقائنا الفلسطينيين بقطاع غزة، والتي تحاول من خلالها إسرائيل تفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها وإجبار الفلسطينيين إلى هجرة ارضهم ودفعهم قسراً للهجرة إلى مصر، وهو ما يهدد امن وسلامة وسيادة الدولة المصرية، وقبلها يهدد القضية الفلسطينية ذاتها.
فقد كانت هذه الأزمة شاهدة على الكيفية التي تدير بها الدولة المصرية قضايا الأمن القومى، محددة الخطوط الحمراء التي لن تسمح مطلقاً لأى أنسان بتخطيها، مهما بلغت قوته وقوة من يقفون خلفه، وهو ما يؤكد بالفعل أن مصر قادة على حماية أمنها القومى، بما تملكه من جيش قوى، وقيادة سياسية لديها الرؤية والحكمة والقدرة أيضاً.
وهنا يجب الإشارة إلى ما قاله الرئيس السيسي، في نهاية أكتوبر الماضى، خلال اصطفاف تفتيش حرب الفرقة الرابعة المدرعة بالجيش الثالث الميداني بمحافظة السويس، لما تحمله كلماته من رسائل مهمة، وأيضاً معانى شديدة القوة، لمن يريد ان يقيس القدرة المصرية، وأيضاً صبرها.
فقد اكد الرئيس السيسى أن الأمن القومي والحفاظ عليه هو دور أصيل ورئيس للقوات المسلحة، بهدف حماية الحدود، دفاعا عن الأمن القومي و مصالح مصر، وقال إن مصر لم تكن أبدا تتجاوز حدودها وأهدافها وتحافظ دوما على أرضها وترابها دون أن تمس، مشيراً إلى أن تفتيش حرب الفرقة الرابعة المدرعة يأتي في إطار الالتزام المسبق لأنشطة احتفالات اليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر التي لها معنى كبير ونقلت مصر من حالة اليأس إلى حالة الأمل ومن الإحباط إلى الفخر ومن الهزيمة إلى النصر، وكل عام نتذكر الجهد الذي بذلته مصر والقوات المسلحة حفاظا على الأمن القومي، مشدداً على أن "الجيش بقوته وقدرته المتعقلة والرشيدة والحكيمة لا يطغى ولا يسعى خلف أوهام وأن هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز".
وأوضح الرئيس السيسي، أن الحديث عن الأمن القومي والحفاظ عليه هو ما يتردد بشكل كبير وهو دور أصيل ورئيس للقوات المسلحة وهو حماية الحدود المصرية وتأمين الأمن القومي المصري ومصالح مصر، فمصر عبر تاريخها القديم والحديث لم تتجاوز حدودها وكان كل أهدافها الحفاظ على أرضها وترابها دون أن تمس، وهذا يعني أن الجيش المصري بقوته ومكانته وقدرته وكفاءته هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز، مؤكداً إنه في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة من المهم عندما تمتلك القوة والقدرة يجب أن تستخدمها بتعقل ورشد وحكمة، فلا تطغى ولا يكون عندك أوهام بقوتك، لكي تدافع عن نفسك وتحمي بلدك وتتعامل مع الظروف بعقل ورشد وأيضا بصبر، ولا تدع الغضب والحماس يجعلك تفكر بشكل تتجاوز فيه.. وعلينا الانتباه من أن أوهام القوة قد تدفع إلى اتخاذ قرار أو إجراء غير مدروس بدعوى أنه كان ناتجا عن غضب أو حماسة زائدة عن اللازم .
كما شدد الرئيس السيسي على أهمية التعامل مع كافة الأزمات بعقل وصبر من أجل تحقيق كل الأشياء الممكنة من غير وقوع أي تجاوزات في استخدام القوة أو القدرات، موضحاً أن المستوى الذي ظهرت عليه القوات المسلحة المصرية في كل التخصصات يطمئن ويدل على الجاهزية التامة، وأنه مهما كانت قوتك فإن الجيش المصري يملك قوة رشيدة وهذا يعد سمة من سمات الجيش في مصر وهي البناء والحماية وعدم الاعتداء، كما شدد على ضرورة أن تكون القوات المسلحة جاهزة ومتسلحة بالعلم والمعرفة "لنكون قادرين على استيعاب التقدم في مجالات التفوق وتطور التسليح الذي تشهده المعدات والأسلحة الحديثة".
هذا الحديث يستحق أن نضعه أمامنا كل لحظة، لانه كاشف للعديد من الأمور، أهمها أن الدولة المصرية، منذ 2014 أخذت باسباب القوة، وفى مقدمتها بطبيعة الحال تطوير القوات المسلحة، لتكون قادرة على المواجهة، والحفاظ على الأمن القومى المصرى، لكن هذه القوة لا تعنى التهور، وإنما يحكمها مبدأ واحد، وهو إنها قوة رشيدة، بمعنى أنها تستهدف البناء والحماية وعدم الاعتداء، وهى ثلاثية تؤكد العقيدة العسكرية المصرية، التي تمتلك بالفعل القوة والقدرة، لكنها في نفس الوقت، تتعامل معها بتعقل ورشد وحكمة، وهو ما ظهر في مواقف عدة، حاولت خلالها أطراف أقليمية ودولية استفزاز مصر، فكان الرد المصرى قوياً، لكن بالعقل والرشد، ظهر في ليبيا وفى غزة وفى أماكن أخرى.
كل هذا يؤكد لنا أن الدولة المصرية قادرة بالفعل على حفظ أمنها القومى، أيا كان شكل التهديد والخطر، وايا كان الواقف خلف هذا التهديد، لان المسألة حينها هي مسالة حياة أو موت، واذا وصلنا إلى هذه المرحلة فإن مصر بأكملها، شعباً ومؤسسات، ستنتفض لمواجهة الخطر، وهو أمر يدركه الجميع، وزاد يقينهم به، بعدما راءوا الالفتاف الشعبى التاريخى خلف القيادة السياسية، سواء حينما خرج المصريين إلى الشوارع والميادين في كافة المحافظات لتفويض الرئيس السيسى في اتخاذ ما يراه مناسباً لحماية الحدود المصرية، ومنع مخطط التهجير الإسرائيليى لأشقائنا الفلسطينيين بقطاع غزة، وصولاً إلى مشهد الانتخابات الرئاسية الذى كان وسيظل معبراً عن الوعى المصرى القوى، والتماسك الداخلى الذى لم يسبق أن شهدته مصر بهذا الشكل.