حمدي عبد الرحيم يكتب: أرض الأبطال والقصائد
السبت، 09 ديسمبر 2023 07:00 م
- عنقاء الحقيقة هي فلسطين التي تلد أرضها الأبطال والشهداء والمجاهدين وزهور النار والقصائد والقصص
قالت الأساطير التي لها قوة الواقع: إن العنقاء سمى بذلك الاسم لطول عنقه، وهو طائر قوى بهي المنظر، وعندما يحضره الموت، يحترق من تلقاء نفسه، فيصبح رمادًا، وهنا تقع المعجزة، لأن من بين الرماد يخرج عنقاء جديد طويل العنق قوي بهي المنظر.
هذا عن عنقاء الأسطورة، أما عنقاء الحقيقة فهي فلسطين التي تلد أرضها الأبطال والشهداء والمجاهدين وزهور النار والقصائد والقصص، تدخل فلسطين في جوف النار، فتنصهر ويطيب معدنها ويذهب عنها خبثها، ثم تعود جديدة لامعة نقية نظيفة.
كم مرة ستدخل فلسطين نار التطهر؟
إنها ضريبة الحرية، فلا حرية بدون دم وموع وحديد ونار.
ستعود فلسطين وستخرج من تحت الركام والأنقاض، وستنتصر طال الزمان أم قصر، وهذا وعد إلهي ولا يخلف الله وعده «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ».
ستأتي ساعة التمكين لا ريب في ذلك، وما فرعون وهامان وجنودهما إلا أسماء جامعة لمعني الشر والظلم والاستكبار والعتو والبطش، فقتلة أطفال فلسطين هم فرعون هذا العصر.
أشاهد كملايين غيري بطولات المقاومة وشجاعتها وإصرارها على تحرير ترابها الوطني، وأشاهد وغيري شر جيش الاحتلال الذي لا يحترم معني ولا يوقر رمزًا، إنه يقتل ثم يقتل ثم يدمر ثم يخرب، ولا يعرف من الأعمال إلا القتل والتدمير والتخريب.
وفي زمن مضى كانت تلك المشاهدات تعرف طريقها إلى الأدب العربي، ثم فاوض من فاوض وصالح من صالح وجاءت اتفاقيات أسلو لتجعل من فلسطين شجرة بائسة تقاوم ريحًا عاتية.
أذكر أن أديبًا بحجم الراحل الكريم الأستاذ علاء الديب لم يكف يومًا عن التذكير بفلسطين وبمأساتها، وظل وفيًا للقضية حتى آخر رواية كتبها «أيام وردية».
وعن تلك الرواية كتبت قديمًا مقالًا أعيد نشر بعضه لنتذكر معًا حرارة المأساة وألم الأرض التي تئن تحت وطأة الاحتلال البغيض.
كتبت: "وما فلسطين إلا أطفال يرشقون الدبابات بالحجارة، وملثمون يصوبون بنادقهم القديمة تجاه الطائرات، وسيارات إسعاف مكدسة بالجرحى، وحرائق مشتعلة في كل مكان، واستشهاديون يفجرون أنفسهم في المشهد كله.
هذه هي فلسطين كما نشاهدها مساء كل يوم في نشرات أخبار التليفزيون ونطالعها صباح كل يوم على صفحات الجرائد.
أما في رواية الفنان الكبير علاء الديب الجديدة «أيام وردية» فهناك فلسطين أخرى سرية، تضغط بجبروت حضورها وبقسوة جمالها وبطغيان مأساتها على قلب بطل الرواية «أمين الألفي» الذي هو «أخصائي اجتماعي بمدرسة المنصورة الثانوية، مفكر عربي قديم، مصلح اجتماعي سابق، مترجم وكاتب ولكنه – أساساً – مفكر عربي وحيد، كثير الأقنعة، بعد طول ازدواج وظلم صار فقط لحظات مفتتة وماضياً يتوارى من نفسه، صار ملاحاً قديماً رابضاً على الشاطئ مهزوماً في الليل والنهار» ذلكم هو أمين الألفي الذي كان مؤمناً ثم جاء الخامس من يونيو 1967 ففتت إيمانه وبعثر يقينه.
خسر الألفي إيمانه القديم بعد يونيو وزوجته بعد سيادة «الإسلام التجاري» وما عاد له غير فلسطين.
كانت فلسطين في عقل أمين الألفي في هذه الأيام وقبلها وبعدها رمزاً، فكرة مسيطرة يقيس بها مواقع الناس، «عاملاً مساعداً» يكشف به الصدق من الكذب.
هو قد خلع نفسه من السياسة، أو هي التي خلعته لكن بقيت فلسطين السليبة معنى يسافر وراءه واسماً يبحث عنه في دواوين الشعراء، وكلمات الصادقين، كوى بها جراح يونيو، وعيش الفقراء حوله والمطحونين، ولا طاب جرح ولا نفع دواء سمع أحد المدرسين يشير إليه ساخراً "بتاع فلسطين».
ما الذي بقي للألفي؟ تقريباً لا شيء اللهم إلا شجرة عشقها كان يبثها همومه ثم اللاشيء. حياة كهذه تقود إما إلى الجنون أو الانتحار، ولكن صديقاً وطبيباً أنقذه من الحالتين وقاده إلى مصحة نفسية وهناك عاش الألفي أيامه الوردية، هل رأيتم كم هو مخادع هذا الفنان الكبير علاء الديب؟
الأيام الوردية هي تلك التي عاشها الألفي محتمياً بجدران المصحة ونعم الأيام ونعم الورد!!
ولكن إلى أين يمضي هارباً من دمه؟؟ في المصحة «يسمع التليفزيون ولا يراه، يستوقف حالته الراهنة مصطلح الـ 13% والـ 11% لا يدرك علاقة هذه النسب المئوية بالوطن، يرى بعين خياله فلسطين تمزق بسكين باردة.
انفردت به وهو راقد أهوال قضية فلسطين. ماذا يفهم؟ وماذا يصدق؟ وما كل هذه الكركبة والقدرة على اختراع الأكاذيب؟ الناس تركوه وحده مع ملايين الأحلام والأوهام والأشعار الميتة. هل يتذكر الأحياء أم الشهداء، أم يكتفي بتأمل حطام ذاته؟ هل هي قضية عامة، سياسية قومية أم هي قد صارت بالنسبة له قضية شخصية متورطًا فيها منذ الأزل؟
وفي المصحة يلتقي الألفي وجها لوجه مع فلسطين واسمها هذه المرة «عفاف» فتاة فلسطينية اغتصبوها أثناء الحرب الأهلية في لبنان، ولأنها فلسطين فقد تمنى الألفي «أن يجمع لها كل لحظات السعادة والوجود المتكامل التي عرفها في حياته وأن ينثرها تحت قدميها قرباناً وهدية خالصة، علها تداوي التعاسة والشقاء اللذين عاشتهما.
وعندما تتمالك عفاف نفسها قليلاً تطلب من الألفي أن يأخذها إلى حيث الكتاب والفنانين والمثقفين الذين عاشت عمراً تقرأ لهم وعنهم. وعندما يأخذها إلى واحد من تلك التجمعات يقابلهما النجم الثقافي اللامع «ف. ف» وما إن يجلس بجوار عفاف حتى تنتفض محمرة الوجه متوترة وكأن أظافر وأنياباً قد نبتت لها، يغادر بها الألفي المكان فتقول عفاف: «كم هو بارع ابن الـ.. لم أدرك عندما حدثني عن العقد، وعن رقبتي ثم عن صدري، بلهاء ما زلت كنت أبتسم، ثم مد يده لفخذي. في أقل من ربع الساعة صنع بي كل هذا.
مجدداً تغتصب فلسطين من صهيوني مسلح أو كتائبي ملثم أو قاهري مثقف لا فرق.
وما أجمل تلك الصفحات التي أفردها الديب للحديث عن علاقة الألفي بشجرته، ثم هناك فلسطين وهذا التناول «الأنيق» – أعتذر عن كلمة أنيق وكان يجب أن أقول الحقيقي – لتلك المأساة الملهاة، نادرة هي الكتابات التي تخلو من فجاجة الزعيق ورغاوى الأكاذيب، فلسطين في رواية الديب هي تلك التي نحسها ولا نراها، فقد أفلح أولاد الأفاعي في جعلها نشيداً نردده ولا نحسه».
والآن ومع مقاومة جسورة شجاعة لا تهاب الموت، ستعود فلسطين كل فلسطين، نشيدًا لا نردده بل نعيشه رمزًا لكل حرية وأملًا في غد عادل.