بين عبور القناة، والعبور إلى استوديوهات الإذاعة، مساحة متشابهة من إبداع العزيمة وعزيمة الإبداع. وعلى قدر عظمة الحرب كان غناؤها عظيما، وتحمل الذاكرة حكايات مُدهشة عن كواليس إنتاج روائع الأغنيات التى عبرت عن النصر ولخّصت مُنجزاته اللامعة.
مع إعلان خبر العبور، سارع بليغ حمدى إلى مبنى الإذاعة ومعه وردة والشاعر عبدالرحيم منصور، لتسجيل أغنية «على الربابة بغنّى»، لكن الأمن منع دخولهم لأن المقر مغلق، فما كان منه إلا أن طلب الشرطة وقدم بلاغا رسميا ضد وجدى الحكيم، بحسب ما كشفه الإعلامى الكبير فى بعض لقاءاته، ووصل الأمر إلى «بابا شارو» رئيس الإذاعة وقتها، الذى حل المشكلة وأدخلهم وسجّلت وردة الأغنية فجرا، ووافق عليها بابا شارو بعدما سمعها 3 مرات.
وكان بليغ حمدى يجلس خلال أيام الحرب على سلالم الدور السابع مع الشعراء، ثم فى استوديو 46 الذى شهد تسجيل أغلب أغنيات العبور، ومن أبرز الأعمال «سمّينا وعدّينا» لشهرزاد تأليف علية الجعار وتلحين عبدالعظيم محمد، و«باب الفتوح» لنجاة، و«النهارده كل شىء أصبح له معنى» تأليف مجدى نجيب، و«صباح النصر» لفايزة أحمد، و«صبرنا وعبرنا».
أما أغنية «راجعين شايلين فى إيدنا سلاح» كلمات نبيلة قنديل وألحان على إسماعيل، فكانت مُسجلة لفيلم «العصفور» للمخرج يوسف شاهين، وعندما بدأ العبور أسرع شاهين إلى رئيس الإذاعة وأهداه الشريط لتُذاع على الفور، وللثنائى نبيلة وإسماعيل أغنيتان أخريان، هما: «رايحة فين يا عروسة» لشادية، و«أم البطل» لشريفة فاضل.
أغنية محمد رشدى «أول حب» كلمات محسن الخياط وألحان بليغ حمدى، و«صباح الخير يا سينا» للعندليب من كلمات الأبنودى ولحن كمال الطويل، و«عاش اللى قال» كلمات محمد حمزة ولحن بليغ حمدى، فقد تحمس عبدالحليم لتقديمها بعد النصر، وبدأت البروفات فى بيته بالزمالك، ثم استعان بالكورال بتوصية من بليغ.
واحد من أساتذة الفن الذين تركوا بصمتهم فى أرواح أجيال، وكان قبلها واحدا من رجال النصر الذين تركوا لنا إرثا نفتخر به، ويحتفل معنا بيوبيله الذهبى متذكرا بكل العزة أثمن اللحظات الوطنية التى عاشها المصريون.
يقول الفنان سامى عبدالحليم عن مشاركته فى حرب أكتوبر، إنه التحق بسلاح المشاة وكان يتدرب ليل نهار، متابعا: «لم نكن نعرف الموعد بالضبط، وكل ما نعرفه أنها ستندلع فى أية لحظة، وعلينا التأهب وأن نكون مستعدين دائما، حتى جاءت اللحظة الحاسمة وهزمنا العدو هزيمة ساحقة، ونحن نردد: الله أكبر، التى خرجت منّا جميعا بطريقة عفوية فهزّت الأرض وثبّتت القلوب».
ويتذكر أجواء اليوم المشهود قائلا: «حرب أكتوبر بالنسبة لى ذكريات جميلة أعيش عليها حتى اليوم، وكلى اعتزاز بما حدث، وبوطنى والأمن الذى نعيشه، كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة، وشعورى بالانتصار كان فرحة عارمة، فأخيرا استطعنا أن نهزم البُعبع الذى طالما عشنا شعورا سخيفًا بسببه، ولم ننتصر عليه انتصارا عاديا، بل كان نصرا مبهرا للعالم بكامله، وأثبتنا أننا نستطيع بذكائنا وقوتنا أن نتغلب على العدو». وتابع الفنان القدير حديثه عن ذكريات العبور: «وقت الحرب كانت هناك عشرات الأغانى والبرامج التى تهتم بتعزيز الانتماء والمشاعر الوطنية، وكنا على استعداد تام للشهادة من أجل الوطن، وتفيض دموعنا بمجرد سماع الأغانى الوطنية، وأكثر ما كنت أحبه منها أغنية مصر التى فى خاطرى وفى فمى».
وأضاف أن الضباط والقادة كانوا قد وضعوا خططا فى منتهى الذكاء، استندت فى المقام الأول على الحيل والخداع الاستراتيجى، وقد صدقها العدو وسهّل ذلك من مهمة العبور، مستطردا: «أتذكر من مواقف الخداع أننا كنا على دبابتنا مُتجهين لمنطقة عسكرية اسمها أرض الجفرة، وقبل وصولنا أمرونا فجأة بفتح الذخيرة، فتوقعت أننا سنحارب، وفى النهاية اكتشفنا أنها خدعة لإرباك العدو».
ويختتم «عبدالحليم»، استدعاءات الذاكرة بالتأكيد أنه بعد خمسة عقود من النصر، يشعر بالحماسة والفخر، وما زال يتذكر كل لحظة مرّت عليه فى الحرب، ويتذكر زملاءه الشهداء، والفرحة العارمة التى لا مثيل لها ولم يُجرب مثلها فى حياته كلها، وإلى اليوم يجلس مع صديقه حسن العدل ليتذكرا معا لحظات الحرب وساعات الفخر والشرف.
شارك الفنان حسن العدل فى حرب أكتوبر، وعاش لحظاتها الصعبة وأصيب خلال المعارك، ليقضى بالمستشفى قرابة ثلاثة أشهر، وحتى الآن ما تزال التجربة الأهم فى حياته، حسبما يتذكر ويحكى فى حواره معنا.
بعد 50 سنة ماذا تمثل لك الحرب؟
لحظة ميلادى الحقيقية، فقبلها لم أكن أشعر أننى على قيد الحياة، وبعدها توقف الزمن وظل ثابتا فى ذهنى، والأهم من المعركة وقت الاستعداد، فلم يكن سهلا على الإطلاق.
ماذا تتذكر من صعوبات ومواقف فى تلك الفترة؟
تدربنا بجد وشمول، وفى سلاحى تعلمنا توجيه الصواريخ، كان صاروخا مضادا للدبابات بطول 80 سنتيمترا ويتكون من جزئين منهما الرأس المدمر، وعليها سلك متصل بجهاز التحكم، وكفاءته تقترب من 3 كيلومترات.
ماذا عن لحظات ما قبل المعركة والاستعدادات؟
لم نكن ننام لحظة، ولم نعرف موعد الحرب، وكانت هناك خدع كثيرة نفذناها، مثل خدعة ذهاب الضباط إلى العمرة، وأن يطلب وزير الخارجية السلام فيتهكموا عليه، كل ذلك كان تمويها، بينما كنا نجهّز للحرب، قبلها كانت كتيبتنا على بعد 50 كيلومترا من القناة، ويومها كنا على بُعد 300 متر فقط.
حدثنا عن أجواء يوم 6 أكتوبر؟
صباح 6 أكتوبر أحضر الضباط كرة وطلبوا منّا اللعب، ووزعوا علينا القصب، حتى يصل للعدو إحساس الاسترخاء وأنه يوم عادى، وفى الثانية عشرة ظهرا بالضبط بدأوا تجميع الكتائب، وفى الواحدة والنصف كان هناك صمت رهيب فى كل الكتائب، وبعد الثانية بدأت الطائرات تُحلّق فوقنا وقالوا سنعبر الآن، وعلى طول خط القناة كانت أصوات المدفعية تدوّى، وبدأنا نركب سياراتنا ونستعد للتوجه إلى المعابر.
كان الجنود كأنهم جحافل نمل من كثرتهم، وكلما اقتربنا سمعنا التكبير والصيحات، ومرت مجموعات الصاعقة وأغلقت أنابيب النابالم، ثم مرّرنا خراطيم المياه لفتح ثغرات فى الساتر الترابى وتسلّقت قوات الصاعقة لفتح الممرات والتعامل مع العدو، وظللنا فى الاشتباكات حتى 16 أكتوبر.
كيف حدثت إصابتك خلال الحرب؟
يوم 16 أكتوبر أرسلوا إمدادات للعدو، فرقتين من الدبابات الحديثة، وحدثت اشتباكات محتدمة، وأُصبت يومها. وجدت نفسى طائرا فى الهواء ولم أشعر إلا وأنا فى مستشفى القصاصين، وتنقّلت بعدها بين ثلاثة مستشفيات حتى شُفيت على خير.
ما شعورك وأنت تحتفل باليوبيل الذهبى للحرب؟
تملؤنى السعادة والفخر. بعد 50 عاما ما زلت أعيش نفس اللحظة كأنها حدثت أمس، فقد وُلدت فى 6 أكتوبر، وأتذكر زملائى الشهداء، وعزائى الوحيد أن بطولاتهم كلّلت جهودنا بالنصر والشرف واستعادة الكرامة.
لعلّنا لم نشهد لوحات البطولة والشرف فى ملحمة أكتوبر، لكن أرواحنا تمتلئ بحكاياتها، والذاكرة لا تخلو من روايات أبطالها، أما الفن والإبداع فقد تلمّس خُطاها من أجل توثيق لمحات منها، فكانت سينما أكتوبر بكل ما فيها من رسائل ومشاعر.
الراحل محمود ياسين «نجم سينما أكتوبر» بلا منازع، إذ شارك فى العديد من الأعمال، إلى جانب إسهامات آخرين تجمّعت لتصنع لوحة فنية، ليس على قدر النصر الحقيقى وتضحياته، إلا أنها تحمل شيئا من روحه ورائحته، فى العبور نفسه أو فى استعداداته السابقة، ومن القائمة «أغنية على الممر» للمخرج الراحل على عبدالخالق وسيناريو مصطفى محرم، وفيلم «الرصاصة لا تزال فى جيبى» وهو الأشهر عن الحرب ومن إنتاج 1974، وكذلك فيلم «بدور» إنتاج 1974 وتدور قصته حول «صابر» الذى يلتقى فتاة نشالة لكنها تقرر التوبة، ويدّعى أمام أهل حارته أنها ابنة عمه حتى يعرفوا حقيقتها، بينما يذهب للحرب ثم يعود مصابا بعد الانتصار ويحتفل مع جيرانه بالزواج من حبيبته، وأيضا فيلم «الوفاء العظيم» إنتاج 1974 الذى يمزج الحربى بالإنسانى من خلال قصة إنسانية تُبرز حجم التحدى والتضامن بين المصريين.
وشهد العام 1974 أيضا إنتاج فيلم «أبناء الصمت» وتدور أحداثه بعد إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات وحرب الاستنزاف، وفيلم «الصعود إلى الهاوية» فى إطار مخابراتى خلال الحرب عن جاسوسة مصرية لصالح إسرائيل ويتم كشفها ومحاكمتها، وفى 1978 أُنتج فيلم «العمر لحظة» الذى يتضمن أول مشاهد حقيقية للحرب، ويتناول الحياة فى مصر خلال تلك الفترة بعيون الصحفية نعمت، المتزوجة من رئيس تحرير فاسد، وتسعى إلى كشف الحقيقة وتغطية قصص الجنود من الجبهة.
وتناول فيلم «حائط البطولات» روح البطولة والفداء والتضحية لقوات الدفاع الجوى، ودورها فى صد هجمات طيران العدو بعد نكسة 1967 وحرب الاستنزاف والاستعداد لأكتوبر، ويجسد العمل بعض الجوانب الاجتماعية للقوات المسلحة، ومدى تحملهم من أجل الوطن فى ملحمة عسكرية وطنية أبهرت العالم.