محمد الكحلاوي.. مداح لأجل النبي
السبت، 30 سبتمبر 2023 10:00 ممحمد الشرقاوي
- أنشد فأبدع.. ومدح فأتقن.. وتجرد فاتصل
- دوبه حب الرسول.. وشفاه من وعكته.. وأعاده للأضواء والمجد
- دوبه حب الرسول.. وشفاه من وعكته.. وأعاده للأضواء والمجد
«يارب توبة على كل عاص.. توبة نصوحة بعد عصياني.. قبل ما أشيب وأنحني وأمشي بعصياني».. الإحساس الذي قيلت به هذه الكلمات، يجعلك هائمًا في ملكوت غير الملكوت، وعالم غير العالم، فالقلب الذي هام في حب خير الأنام، ليس له أن يضل أو يذل.
خاصة لو كان من المشمولين بالعناية الإلهية، فمن ماتت والدته وهو صغير، طوع الله له الأرض، فما بالك بمن ماتت وهي تلده وتبعها والده في عامه الثاني من عمره، كم سيكون له من الرعاية، حتى ستفتح له أبواب القلوب، ببركة صلاته على الرسول.
تحول «مداح النبي» إلى أيقونة يتذكرها المصريون كل عام مع ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أنشد فأبدع، ومدح فأتقن، وتجرد فاتصل، وعلق آماله بالسماء، فحنت عليه.
ذاك الداعي بقوله: «أنا في جاه النبي تكرم عبيدك والنبي»، يتصادف مولده هذا العام بعد أيام قليلة من احتفالات العالم الإسلامي بمولد النبي، فيحتفل المصريون بأناشيد المداح ويتضرعون بها، لأجل أن تقبل صلاتهم.
محمد مرسي عبد اللطيف حسين، المولود في أول أكتوبر 1912، علق في آذان المصريين، كما تعلق الأغنيات، باسم "الكحلاوي"، نسبة إلى عائلة الأكاحل، عائلة والدته، التي قضت نحبها أثناء ولادتها له، في منيا القمح بمحافظة الشرقية شمال القاهرة.
شُمل اليتيم بالعناية السماوية والعائلية مبكراً، وتناقلته عائلته بينها إلى أن بلغ 3 سنوات، واستقر مع خاله الفنان محمد مجاهد الكحلاوي في حي باب الشعرية الشعبي بالقاهرة، حتى صار واحدًا من أشهر مداحي الرسول، وعرف بلقب "مداح الرسول".
بدأ الطفل الكحلاوي دراسته الأولية في مدرسة فرنسية للراهبات في باب الشعرية بالقاهرة، ودرس فيها 5 سنوات، وقبل إنهاء مرحلته التعليمية تشاجر مع أحد زملائه فقرر عدم الذهاب إلى المدرسة مرة أخرى، وفي السادسة من عمره حفظ القرآن وأصول التجويد في جامع سيدي الشعراني، ثم ألحقه خاله بالتعليم الديني الأزهري باقتراح من الشيخ حسن عبد الوهاب الشقيق الأكبر للموسيقار محمد عبد الوهاب، لكنه لم يحصل على شهادة العالمية الأزهرية، بل أتقن اللغة العربية وضبط مخارج الحروف، واستوعب النصوص العربية والشعر العربي، وهو ما مكنه من إلقاء الشعر والقصائد والمدائح النبوية. عمل موظفاً في السكك الحديدية، ثم ترك وظيفته والتحق بفرقة عكاشة، ومنها بدأت مسيرته الغنائية.
شيخ المداحين دوبه حب الرسول دوب، فانتقل من حياة الطرب والتمثيل والإنتاج إلى الغناء الديني، مدفوعاً بعشقه، وتفرغ للمديح النبوي، حتى بلغ الغناء الديني حوالي نصف إنتاجه الفني، وبلغت ألحانه أكثر من 600 لحن من مجمل إنتاجه الذي قارب 1200 لحن.
الكحلاوي كان تركيبة قد يراها البعض غريبة، فهو لاعب الكرة أيضاً الذي عشق الساحرة المستديرة، عشق في طفولته الغناء وكرة القدم، فكان كابتن نادي "السكة الحديد"، كما كان من مشجعي ناديي الزمالك والترسانة، ويرتبط بصداقات مع كثير من نجوم الكرة ولازمهم في كثير من سفرياتهم.
وفي الـ29 من عمره تزوج بفتاة من أصول تركية وأنجبا 7 أبناء (5 بنات وولدان)، أكبرهم الراحل الدكتورة عبلة أستاذ الفقه والعميد الأسبق لكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، وثانيهما أحمد "منشد"، يسعى لإحياء تراث أناشيده الدينية من خلال الفرقة القومية التابعة لوزارة الثقافة.
الرحلة إلى آذان المصريين
تسلل صوت الكحلاوي عبر أثير الإذاعة المصرية منذ نشأتها عام 1934، وأنشأ شركة أفلام الكحلاوي، ثم بعد ذلك أفلام القبيلة للإنتاج الفني، وفي عام 1945 كان أول نقيب للموسيقيين، وبعد سنتين تنازل عنها للموسيقار محمد عبد الوهاب.
ظهرت إرهاصات موهبته مبكراً، إذ كان يذهب مع خاله إلى الأفراح وحفلات السمر، فتعلق بالغناء وأحب الموسيقى، لكنه لم يستطع أن يبقي الغناء مجرد هواية، فبدأ في غناء المواويل الشعبية، وأخذ لقب خاله "الكحلاوي"، والذي كان يرفض أن يسلك ابن شقيقته نفس طريقه.
ودأب على حضور كواليس حفلات الفرق المسرحية والموسيقية العريقة، والتي كانت تقام كل يوم خميس في حديقة الأزبكية. وفي الـ12 من عمره بدأ مسيرته الفنية على مسرح فرقة عكاشة، إذ كان يظهر على المسرح صامتاً ضمن مجموعة "الكومبارس" مقابل أداء "قرش صاغ" لمدير المسرح آنذاك.
البداية مع الغناء كانت صدفة، حين تغيب مطرب فرقة عكاشة في إحدى المسرحيات فرشحه زملاؤه، فغنى موال "سبع سواقي بتنعي"، وتفاعل معه الجمهور حتى فر هارباً إلى الشارع من فزعته من تجاوب الجمهور، وأعاده صاحب الفرقة زكي عكاشة وضمه إلى كورال فرقته.
سافر الكحلاوي مع الفرقة إلى الشام لإحياء عدد من الحفلات دون علم خاله الذي كان لا يريد له العمل في الفن، بل التفرغ للمعهد الأزهري، لكنه هرب ولم يعد مع الفرقة بعد انتهاء جولتهم الفنية، وعاش في الشام لمدة 8 سنوات أمضاها في تعلم الأشكال المختلفة للموسيقى العربية، وأتقن اللهجة البدوية وإيقاعاتها وغناء المواويل.
الشاب كحلاوي اتجه إلى الغناء البدوي الذي تعلمه أثناء سفره وبرع في أدائه وتلحينه، وشكّل بصحبة الشاعر الشعبي بيرم التونسي ثنائيا، فقدما العديد من الأعمال البدوية، وأنتجت شركته حوالي 400 أغنية، بعدها بدأ لوناً غنائياً شعبياً، وغنى فيه 300 أغنية بنوتة موسيقية وبمصاحبة فرقة موسيقية كاملة لأول مرة في تاريخ الغناء الشعبي.
عاد بعد ذلك إلى مصر شابا في العشرين من عمره محملا بثقافة موسيقية وحوالي 25 ألف جنيه، وتلك كانت ثروة ضخمة في بداية الثلاثينيات، فساعدته في دخول عالم الإنتاج السينمائي.
وفي حرب فلسطين عام 1948 أنشد العديد من الأغاني الوطنية بأكثر من لهجة عربية، مثل "على النجدة هيا يا رجال"، و"وين يا عرب"، و"يا بن الخطاب يا عمر"، و"يا أمة الإسلام"، و"العبور العظيم" وغيرها.
ليس صوت الكحلاوي وحده موطن البراعة، بل كان رائداً من رواد التلحين في عصره، فلحن كل أغانيه ما عدا لحنين، واحد لحنه له صديقه زكريا أحمد لأغنية "خلي السيف يجول"، وأعاد تلحينه في ما بعد، والآخر أغنية "بسكتلة"، ولحنه محمد عبد الوهاب في أحد أفلامه، ولحن للعديد من مطربي عصره، ومنهم نور الهدى ونجاح سلام وحورية حسن ومها صبري وشريفة ماهر، وغيرهم من نجوم الطرب.
وكان لحنه هو اللحن الافتتاحي والختامي لإذاعة صوت العرب عام 1934، كما كانت تذاع أغنيته "يا أمة الإسلام يا أمة القرآن" على مدار اليوم، وكان هو المطرب الوحيد الذي خصصت له الإذاعة نصف ساعة يومياً.
في السينما كنت أنا فنان
في عام 1935 اتجه محمد الكحلاوي إلى التمثيل، وكان نجما في أول أفلامه "عنتر أفندي" الذي وضع ألحانه رغم أنه لم يظهر إلا في مشاهد معدودة، ومنذ اللحظة الأولى كان صاحب لحنه، فحملت أغنياته اسمه، وأصبح المخرجون يطلبونه، لأن الأغنية في الأفلام كانت آنذاك بمثابة طرفة لا بد من وجودها.
أنشأ الكحلاوي شركة إنتاج سينمائي باسم "أفلام القبيلة" تخصصت في الأفلام العربية البدوية، فأنتجت ما يقارب 15 فيلما مثّل في العديد منها إلى جانب تأليفه قصص وسيناريوهات عدة أفلام. وعمل في السينما المصرية ابتداء من فيلم "رابحة"، وانطلق من عام 1940 في المشاركة بوضع الموسيقى والألحان لأفلام مثل "حبابة"، و"حياة الظلام"، و"على مسرح الحياة"، و"مصنع الزوجات"، ولحن وغنى موالا في فيلم "سي عمر".
وخلال 10 سنوات قدم أفلاما مهمة في تاريخ السينما المصرية والعربية، بعيدا عن الاقتباس من النصوص والمسرحيات والروايات الأجنبية المترجمة بلغت 33 عملاً بين البطولة ووضع الألحان والموسيقى، واعتزل السينما بعد فيلمه "بنت البادية" عام 1958، وكان من أبرزه أعماله الفنية "أحكام العرب"، و"يوم في العالي"، و"أسير العيون"، و"الزلة الكبرى"، و"بحبح في بغداد"، و"عريس من إسطنبول"، وأشهرها فيلم "كابتن مصر"، وهو أول فيلم عن كرة القدم في السينما المصرية، بالإضافة لجولات فنية شملت دول الشام والعراق وتونس الجزائر والمغرب، كما زار 5 دول أوروبية (اليونان، إيطاليا، سويسرا، فرنسا، إنجلترا).
الكحلاوي يغير الدفة للمديح
في مدح النبي تميز الكحلاوي وأبدع، فبعدما أصيب بمرض في أحباله الصوتية، جاءه هاتف في منامه – تقول عبلة ابنته إنها رؤيا- بأنه سيتعافى وسيمدح النبي فقط ولذا كانت أغنيته "حب الرسول يابا دوبني دوب". وقد كان، فترك عوامته الشهيرة على النيل، والتي كان يقيم فيها حفلاته، وبدأ مرحلة جديدة من حياته الفنية بعد تدينه، وانتقل إلى عالم الغناء الديني، وتفرغ لهذا اللون من الغناء والتلحين منذ عام 1951.
ومن أروع ألحانه الدينية في تلك الفترة "ملحمة الرسول" التي غناها بصوته، وقدمها التلفزيون المصري عام 1963، وفي عام 1964 قدمها ضمن فعاليات مؤتمر علماء المسلمين في القاهرة، فأطلق عليه شيخ الجامع الأزهر حينها لقب "مداح الرسول".
ولم يقتصر الأمر على مجرد المديح، بل غير مدرسة الإنشاد بأكملها، وصنع لنفسه لوناً خاصاً، فوضع للإنشاد أسسًا وقواعد محددة، وحوّله من التواشيح والأناشيد إلى الغناء بتوزيع موسيقي ولحن وفرقة كاملة.
قدّم الكحلاوي مئات الأغنيات توزعت بين الإنشاد والغناء والسير والملاحم، منها "مدد يا نبي"، و"قاصدك وأنوي أتوب"، و"لأجل النبي"، و "يا قلبي صل على النبي"، وغيرها.
ومثلت مرحلته الأخيرة في الغناء الديني قرابة نصف إنتاجه الفني، إذ لحن أكثر من 600 أغنية دينية من أصل 1200 عمل له. ودخل خلال هذه الفترة مرحلة الزهد في حياته، فهجر عمارته الفاخرة في حي الزمالك، وسكن في استراحة مسجد بناه عام 1949 بمنطقة البساتين في حي الإمام الشافعي، وبنى إلى جانبه مدفنا له.
ومن بين الأغاني الأشهر في حياة "الكحلاوي" "عليك سلام الله" التي يعشقها المصريون، أغنيته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم "لأجل النبي.. تقبل صلاتي على النبي"، واشتهرت في عامي 1953 و1954، حيث كان إنتاج الإذاعة المصرية للمدائح النبوية مرتفعا، وما زال كثير من المنشدين يتغنون بها حتى الآن.
وكللت هذه الرحلة الكبيرة بالعطاء، بجوائز وتكريمات، منها جائزة التمثيل عن دوره في فيلم "الزلة الكبرى"، وجائزة أحسن منشد في العالم العربي من ملك المغرب محمد الخامس، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة الدولة التقديرية عام 1967، قبل أن تنتهي في الخامس من أكتوبر 1982 عن عمر ناهز 70 عاما، ودفن في مدفن المسجد الذي بناه بمنطقة الإمام الشافعي.