نجوم في القلوب عالقة: سيد درويش.. موسيقي تراقصت به الألحان

السبت، 09 سبتمبر 2023 06:00 م
نجوم في القلوب عالقة: سيد درويش.. موسيقي تراقصت به الألحان
محمد الشرقاوي

- صاحب «الحلوة دي» رسخ لحلاوة الموسيقي المصرية وتوقفت عندها المدارس المستوردة كثيراً حتى كثر لوم العزول

- توفي سيد درويش في 10 سبتمبر 1923 عن عمرٍ ناهز 31 عامًا ووارى جسده بحديقه الخالدين بالإسكندرية دون معرفة سبب الوفاة 
 
ما إن تضرب الأوتار، وينطق اللحن، وسط زحام من النغم، يمر خفيف الروح، يتعاجب على وقع المقامات، فيحزن في الصبا، ويرق ويبهج في النهاوند، ويترنم في العجم، ويتراقص في البيات. حتى إذا حزن أسمعه الشيخ مقام "سيكاه"، فيبعث السعادة للروح، ويدفئها بالحجاز، وإذا أراد لها استقامة "مزاج" منحها الراست.
 
سالمة يا سلامة، لم يكن وقعها على القلب هوناً، حتى إن الألفاظ حفظوها في الشارع، وكلما ذهبوا لرحلة غنوها بنفس اللحن، مقتطعين منها باقي الأغنية، ليتذكروها حين يكبروا ويحملوا عزم مصر، فيغنوها مع "قوم يا مصري".
 
أرى أن صاحب "الحلوة دي" رسخ لحلاوة الموسيقي المصرية، فهواها من يتذوق المقامات، وتوقفت عندها المدارس المستوردة كثيراً، حتى كثر لوم العزول، لكنك كسامع طالما هويت، فأنت انتهيت عند سيد درويش. 
 
الشيخ سيد، تخلى عن دراسة العلوم الشرعية، والتي بدأها في معهد ديني لمسجد المرسي أبو العباس، وما أن أتم حفظ القرآن وتجويده، تعلم الموسيقي، فبدع وأبدع.
 
لموسيقي درويش وقع عن المصريين، فالمغن بدأ الصعود على سلمه الموسيقي من الشارع، على المقاهي، حتى انتشرت حدوته في ربوع المحروسة، فسمعه "الأخوَين عطالله" السوريين، فاستأجراه على الفور، وهناك أُتيحت له الفرصة لتعلم الموسيقى بشكلٍ أكبر.
 
رحلة درويش كانت مليئة بالألم، وهو ما حفز الألحان بداخله، فالمولود في 17 مارس عام 1892، في كوم الدكة بالإسكندرية، لم تكن عائلته قادرة على تحمل تكاليف تعليمه، ومع دراسته عمل عامل بناء لإعالة أسرته.
 
تزوج أول مرة بعمر السادسة عشر وأنجب منها محمد البحر، وبعد زواجه بعدة أشهر تجمد عمله بالفن، وأصبح يبحث عن مصدرٍ رزق، لكن عتبته الثانية كانت "جليلة" تزوجها عام 1918، أنجب منها "حسن"، ومعها بزغ نجمه في الغناء. غير علاقة أخرى حامت في الأوساط الفنية مع "حياة صبري"، حتى قيل بأنه تزوجها سراً.
 
وفي مرة كان يعمل درويش مغنياً على مسارح الإسكندرية، يعلق قلبه بحب غانيتين الأولى اسمها فردوس والثانية اسمها رضوان، فكان إذا تخاصم مع الأولى ذهب إلى الثانية والعكس بالعكس وصدف مرة أن هجرته الاثنتان معا وبقي مدة من الزمن يتلوى من ألم الهجران.
 
وفي إحدى لياليه بينما كان رأسه مليئا بما تعود عليه في بيئته ومحيطه من ألوان الخمور والمخدرات خطرت على باله فردوس وهاج شوقه فقصد بيتها طالبا الصفح والسماح بالدخول عليها ولكنها أبت استقباله لعلاقته مع عشيقته الثانية رضوان، فأقسم الشيخ سيد أيمانا مغلظة بأنها صاحبة المقام الأول في قلبه وجوارحه ولكن فردوس أرادت البرهان بأن يغنيها أغنية لم يسبق أن قالها أحد قبله في غانية فأنشدها في الحال: يا ناس أنا مت في حبي وجم الملائكة يحاسبوني حدش كده قال وانتهت الأغنية بالبيت الأخير الذي كان له شفيعا في دخول بيت فردوس فقال: قالوا لي أهو جنة رضوان واخترت أنا جنة فردوس.

صيت ذاع قبل الموت 
 
تقول مراجع تاريخية متعدد، إن درويش ذاع صيته بالأوساط الفنية بالقاهرة، وجاءه الشيخ "سلامة حجازي" ليحضر إحدى حفلاته، فأُعجب به، ودعاه للقاهرة، لكنهم استقبلوه بالصفير كونه صغير السن، حينها خرج سلامة حجازي وقال لهم بأن هذا الفتى هو عبقري المستقبل.
 
بعد عودته أصابه حزنٌ شديد بسبب فشله، واستمر بالعمل في الإسكندرية في متجرٍ للأثاث القديم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وانتشر اسمه كثيرًا في القاهرة بأسلوبه الجديد في التلحين، وكانت توجد فرقة الممثل الكبير جورج أبيض الذي طلب من سيد درويش أن يلحن له أول أوبريت باسم (فيروز شاه) ودعاه من الإسكندرية.
 
ويعد عام 1918 نقطة التحول، حين عاد للقاهرة وتعرف على نجيب الريحاني، وغيره من المشاهير، فلمع اسمه وكثر إنتاجه، ولحن لكافة الفرق المسرحية أمثال فرقة نجيب الريحاني، وجورج أبيض، وفرقة علي الكسار.
 
ذلك المتوفي في عمر 31 عاماً ما زال العالم العربي يحتفل حتى اليوم بذكراه، وهي رحلة قليلة في الحياة الفنية، لكن عززها التاريخ، الذي عرّفه بأنه محفز المصريين، فلازمهم في ثورة 1919، بأغنية "قوم يا مصري"، فكان لسان حال الثوار، ومغذى روح النضال والمقاومة الشعبية ضد الاحتلال.
 
وبعوده تصدر المسيرات، مع رفيقه بديع خيري المظاهرات، يهتف بصوته الشعب عن الاستقلال التام، وقدم أغنية للمطالبة بعودة سعد زغلول من المنفى، فغنى: "زغلول يا بلح يا بلح زغلول، يا روح بلادك ليه طال بعادك"، كما اقتبس درويش من أقوال الزعيم مصطفى كامل عبارات استخدمها في صياغة النشيد الوطني المصري الحالي "بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي".

أبو الموسيقى المصرية
 
في كتاب: "الغناء والسياسة في تاريخ مصر"، للناقدة الموسيقية الدكتورة ياسمين فراج، تقول إن لحن نشيد "بلادي.. بلادي"، وضعه سيد درويش في سبتمبر عام 1923، وحفظه لطلبة المعهد العباسي لاستقبال الزعيم سعد زغلول من المنفى، ولكنه توفى قبل أن يتم مراده بيومين فقط، وقُدم النشيد لأول مرة في 17 سبتمبر من العام نفسه (1923)، أمام سعد زغلول دون وجود ملحنه.
 
يقول كتاب "سيد درويش والموسيقى العربية الجديدة"، للكاتب الأمريكي إدوارد لويس، إن سيد درويش كان غريباً، ومتطرفا كالعصر الذي ولد فيه والشعب الذي انبثق عنه، ويعتبر سيرة حياته، وظروفه، وما أنجزه للموسيقى العربية بمثابة معجزة، تليق بعصره وشعبه، ويتحدث الكاتب الأمريكي كيف كان لدرويش طريقة في اكتشاف موسيقى بلاده روحًا جديدة، مكنتها من أن تصبح أداة فعالة للتعبير عما يشعر به الإنسان من عواطف وانفعالات. 
 
وتابع أنه ربط بذكاء بين الإنجاز العملاق الذي قام به درويش خلال عمره القصير، وظاهرة أخرى تتعلق بمصطفى كامل الذي قاد في فترة سابقة بقليل حزبا سياسيا، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وسافر إلى فرنسا لطرح قضية بلاده. وهو الآخر مات مبكرا في الرابعة والثلاثين. كما ربط هذا وذاك بالانقلاب الجريء الذي أحدثه قبل ذلك الشيخ محمد عبده على صعيد الفكر الديني، ليعطينا لمحة عن طبيعة الحقبة التي نشأ فيها درويش.
 
ومن بين ملامح إبداعه، أدخل الغناء البوليفوني في الموسيقى المصرية للمرة الأولى، فلحن أوبريت "العشرة الطيبة" مع فرقة نجيب الريحاني وأوبريت "شهرزاد والبروكة"، وتعاون مع "منيرة المهدية"، التي ألف معها عدة أعمال مثل: "كل يومين".
في 1920، قُدِّمت أوبرا كاملة من ألحان سيد درويش بعنوان "مارك أنطوان وكليوباترا" على خشبة المسرح المصري، ناهيك عن ألحان تعيش لليوم، وصارت جزءً من الفولكلور المصري، منها: "سالمة يا سلامة" و "زوروني كل سنة مرة" و "الحلوة دي" و "أهو دا اللي صار".
 
وسجلت ثلاث شركات تسجيل صوت سيد درويش وهي: "ميشيان" وهي شركة تسجيلٍ محلية صغيرة أسسها مهاجرٌ أرمني، وقد سجلت صوته بين عامي 1914 و1920، "أوديون" الشركة الألمانية التي سجلت على نطاقٍ واسع ذخيرته المسرحية الخفيفة في عام 1922. و"بايدافون" التي سجلت ثلاثة أدوار عام 1922.
 
وتوفي سيد درويش في 10 سبتمبر 1923 عن عمرٍ ناهز 31 عامًا. ولا يزال سبب وفاته مجهولًا، ويقول البعض إنه تعرض للتسمم أو مات بسبب السكتة القلبية، ودُفن في حديقة الخالدين في الإسكندرية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق