حمدي عبد الرحيم يكتب: عبد الصبور ومفرمة العقاد
السبت، 19 أغسطس 2023 08:00 م
وبين رد ورد مضاد تواصلت المعارك والعجيب أن العقاد لم يسحق عبد الصبور الذي خرج من المعركة شاعرًا كبيرًا
في الرابع عشر من أغسطس من العام 1981، رحل عن دنيانا الشاعر الأستاذ صلاح عبد الصبور الذي يعد أحد أهم الشعراء العرب في القرن الأخير.
عاش عبد الصبور حياة قصيرة لم تتجاوز الخمسين سنة، فقد ولد بمحافظة الشرقية في العام 1931 ورحل بالقاهرة في العام 1981، ورغم حياته القصيرة فقد كان كجده المتنبي "يملأ الدنيا ويشغل الناس".
خاض عبد الصبور العديد من المعارك الأدبية الشرسة، ولكن معركته مع الكاتب الكبير محمود عباس العقاد، كانت هي الأخطر. وقعت الواقعة بين عملاق شهير هو العقاد الذي كان يكبر عبد الصبور باثنتين وأربعين سنة، ولد العقاد في العام 1889.
كان العقاد زمن المعركة قد رسخت مكانته بوصفه المفكر صاحب القلم الجبار.
قرأت في المذكرات المنسوبة لمصطفى باشا النحاس تفاصيل خلاف نشب بين النحاس باشا وكاتب الوفد الأشهر العقاد، وقد أنهى العقاد الموقف قائلًا للنحاس باشا: "أنا العقاد كاتب الشرق الأول بالتفويض الإلهي!".
جملة العقاد في وصف نفسه تكفي، لكي نعرف أي رجل كان العقاد.
عبد الصبور كان شابًا دون الثلاثين، تعرفه نخبة من قراء الشعر، فلم تكن جماهيريته قد تكونت بعد.
وفق موازين القوى كان يجب أن يسحق العقاد عبد الصبور، فالعقاد هو الأسن والأشهر وإمام مدرسة وشيخ طريقة، وبرلماني هدد بسحق رأس ملك البلاد فؤاد الأول إن تلاعب بالدستور، وجرب السجن وخاض الكثير من المعارك مع أئمة عصره ويكفيه معركته مع جبار آخر هو مصطفى صادق الرافعي، بينما عبد الصبور شاب لا يمتلك سوى حلمه في أن يكون كما يريد هو لا كما يريد العقاد. تولى العقاد ـ الذي سبق له أن شن غارات ضد شعر شوقي ـ لجنة الشعر فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وأصبح مقررا للجنة.
تقدم الشاب صلاح عبد الصبور بإنتاجه الشعري إلى اللجنة العقاد الذي لم يكن يعجبه شعر شوقي هل سيرضيه شعر عبد الصبور؟
بجرة قلم أحال العقاد شعر عبد الصبور إلى لجنة النثر.
كان العقاد واضحًا فهو يرى أن شعر عبد الصبور ليس شعرًا لأنه غير موزون وغير مقفى، والوزن والقافية شرطان أساسيان لا بد من وجودهما حتى يسمى الكلام شعرًا!
وكان عبد الصبور واضحًا، إما الآن أو فليصمت إلى الأبد، وقد فعلها وتصدى للعقاد الجبار وكتب مقاله الشهير " "موزون...والله العظيم".
في المقال قال عبد الصبور: "عبثا نحاول نحن الشعراء المحدثون، أن نؤكد لبعض الأدباء والنقاد أن شعرنا الحديث موزون، تجرى موسيقاه العروضية على نفس الأوزان التي دونها الخليل بن أحمد، وكنت أظن أننا لن نحتاج إلى هذا التأكيد، وأن بعض أساتذتنا وزملائنا من الأدباء والنقاد سوف يعفوننا من هذا البيان، لو قرأوا ما كتبنا، وتتبعوا إنتاجنا الفني، دون تحيز سابق، أو ميل قديم، ولكن الهوى فى حياتنا الأدبية يغلب الحجة إلى حين، ويوشك أن يحجب وجه الحق، فيقف أنصار الشعر الجديد عندئذ، وظهورهم إلى الحائط، وكيف لا يقفون هذا الموقف، وهم متهمون بالتخلي عن الأوزان والقافية، وبالكلام (السايب)، والأستاذ العقاد كتب فى أخبار اليوم، مقالا ممتعا عن الشعر الشعبي، لا نستطيع أن نعترض عليه، ولا نستطيع كذلك على قوله أن السليقة الشعبية تأبى أن يكون الشعر (سلبيا) وأن لها أوجها فى التفنن حين تنظم وتشهر وتشعر، فتلتزم هذه الموسيقية العروضية التزاما قد يجاوز المدى الذى يصطنعه الشعر المعرب الفصيح".
الكلام السايب كان هو وصف العقاد لإنتاج عبد الصبور وتياره.
وبين رد ورد مضاد تواصلت المعارك والعجيب أن العقاد لم يسحق عبد الصبور، الذي خرج من المعركة شاعرًا كبيرًا، سرعان ما أصبح من أهم شعراء العربية في القرن الأخير.
إن نجاة عبد الصبور من مفرمة العقاد لم تكن تعبيرًا عن نصر شخصي، بقدر ما كانت تعبيرًا عن رياح جديدة قادمة.