نجوم في القلوب عالقة: صلاح عبدالصبور.. فارس هزمته الكلمات
السبت، 12 أغسطس 2023 06:00 ممحمد الشرقاوي
-الشاعر العربى الوحيد الذى اختير اسمه بموسوعة أوكسفورد للألفية ضمن أهم مائة شاعر عالميا أثروا البشرية
- جمع في كتاباته الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا.. وحقق بمسرحية "مأساة الحلاج" نقلة في الأدب المصري
- جمع في كتاباته الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا.. وحقق بمسرحية "مأساة الحلاج" نقلة في الأدب المصري
"وسترجع يوما يا ولدى مهزوماً مكسور الوجدان.. وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان".. ذلك اللحن الحزين كفيل بأن يوقظ بداخلك كل الآلام والشجن، فالملحن محمد الموجي، أخذ حليم إلى أرض اللاعودة.
الكلمات التي كتبها نزار قباني عن هزيمة فارس أحب، كفيلة بأن تسقط رايته. رجاءً توقف هنا للحظة، واقرأ هذه الأبيات: (ماذا جرى للفارس الهمام؟.. انخلع القلبُ، وولَّى هاربًا بلا زِمام.. وانكسرت قوادمُ الأحلام.. يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الدمعةِ البريئة!.. يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الضحكةِ البريئة! لكَ السلام/ لكَ السلام...).
فبين القصيدتين طباق في المعنى، وهو من خيالي، فالطباق الشعري داخل القصيدة الواحدة، لكنها أذني جمعت بينهما أثناء كتابة تلك الكلمات، ولو لحن محمد الموجي، لو لحن كلمات صلاح عبدالصبور، لأسقط ذلك الفارس أرضاً وأثخنه الجراح، ولكنها الحياة.
فصاحب الملحمة الأشهر في المسرح المصري "مأساة الحلاج"، عشق الشعر منذ صغره، حتى أتقن محسناته البديعية، فبدع اللفظ، وألهب الروح، ومشى في القيد، وجمع بين كل جميلين متقابلين.
وبذلك استمر الأثر الفني في النصوص الأدبية لصلاح عبدالصبور "جلها"، في الشعر والمسرح، فالفتى الذي بدأ حياته شاعراً حصيفاً منذ بداياته حتى تمرس، فجمع في كتاباته الفلسفة والتاريخ، وعلم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، وغيرها من العلوم.
ذلك المولود بمدينة الزقازيق في 3 مايو 1931، كتب الشعر في سن صغيرة، أثناء دراسته بالمرحلة الثانوية، ونشرت قصائده في مجلة الثقافة القاهرية والآداب البيروتية آنذاك، وتسبب انفتاحه على الثقافات الأخرى في خلق توليفة عربية مطعمة بأداب وشعر غربي، فمثل وحده مرحلة إبداعية في الأدب المصري.
سار صاحب "أحلام الفارس القديم" في طريقين متوازيين، فجمع بين الدراما والشعر، وطرح أيقونات صوفية، مخبراً: "أعطيكَ ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة.. لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكارة.. لا، ليس غيرَ أنتِ من يُعيدُني للفارسِ القديم".
ذلك الشاعر التحق بكلية الآداب وتخرج فيها عام 1951، ليبدأ مشواره فى عالم الشعر والأدب، واستطاع لفت الأنظار من أولى مجموعاته الشعرية والتى جاءت بعنوان "الناس في بلادي"، وكان أيضًا أول ديوان للشعر الحديث يهز الحياة الأدبية المصرية وفيه تجلت فرادةُ الصور واستخدام المفردات اليومية الشائعة، وثنائية السخرية والمأساة، وامتزاج الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي واضح.
أصدر "عبد الصبور" 6 مجموعات شعرية بدأها عام 1957 بإصدار أول قصيدة له بعنوان "شنق زهران"، ثم تبعها: الناس في بلادي، أقول لكم، أحلام الفارس القديم، تأملات في زمن جريح، سجى الليل، الإبحار في الذاكرة، وديوان "عمر من الحب" وهو مقتبس من مجموعة دواوينه".
ونالت قصيدته شنق زهران شهرة كبيرة وخاصة بعد صدور ديوانه الأول الناس في بلادي إذ كرسه بين رواد الشعر الحر مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وسرعان ما وظف صلاح عبد الصبور هذا النمط الشعري الجديد في المسرح فأعاد الروح وبقوة في المسرح الشعري الذي خبا وهجه في العالم العربي منذ وفاة أحمد شوقي عام 1932 .
وفي عام 1961 وبعد التأميم عُين بمجلس الدار المصرية للتأليف والترجمة، انتدب مديرًا للنشر في وزارة الثقافة، ثم مديرًا عامًّا لهيئة الفنون ثم رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبعد حرب أكتوبر عين مستشارًا ثقافيًّا بالهند لمدة أربع سنوات.
مأساة الحلاج وأخواتها الأربعة
تقول روايات تاريخية عن "عبدالصبور" إنه شاهد فرقة رائد المسرح العربي يوسف وهبي تقدم مسرحية بعنوان: "أولاد الفقراء" في مدينة الزقازيق، وبعدها انتقل إلى القاهرة، لكن كانت معرفته بالمسرح من خلال القراءة بداية من مسرح أحمد شوقي الشعري، والمسرح الأوروبي.
وبدأ عبدالصبور تاريخه المسرحي بكتابة مشهدين، وعقب الانتهاء منهما سرعان ما اتجه إلى المترجم محمد فريد أبوحديد بصفته أحد رواد ترجمة المسرح الأوروبي، لكونه واحدا من القراء المهمين بالشعر والكاتب المسرحي الإنجليزي وليم شكسبير ليقرأ له ما كتبه، فاستطاع أن يخلق شخصية مثقف حائر ما بين الفكر والفعل في كتابته أي شخصية هاملتيه تماما، محاولا الكتابة مرة أخرى بمسرحية عن "الزير سالم"، و"مأساة الحلاج" التي كانت أول مسرحية تكتمل أركانها الأدبية وانتهى من كتابتها عام 1964م، ويطلق عليها مسرحيات الاستشهاد، والتي حققت نقلة في الأدب المصري.
مسرحية مأساة الحلاج التى جرى تشخيص مشاهدها على المسارح منذ ظهورها الأول، أبرزها "مأساة الحلاج" والتي تناول خلالها شخصية المنصور بن حسين الحلاج، العاشق المتصوف في منتصف القرن الثالث الهجرى، بجزئيها "الكلمة" و"الموت".
كذلك "مسافر ليل"، التى نشرت عام 1969 فى مجلة المسرح بالقاهرة، حاول خلالها عبد الصبور أن يظهر من خلالها تفاعلات الافراد مع السلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والدينية محاولاً تسليط الضوء على احتدام الصراع بين الإنسان والمجتمع، الإنسان والسلطة واغتراب الإنسان عن واقعه، كما وصف محنة الإنسان المعاصر ومحاولات استلاب حريته وهويته من خلال سلب تذكرته وبطاقته الشخصية وقتل روح المبادرة والتحرر والتمرد.
وتنتمي لمسرح العبث، حيث قدمت هذه المسرحية وشارك في بطولتها مجموعة من الفنانين، هم: رشوان سعيد في دور "الراوي"، وصبري عبد المنعم في دور "الكمساري"، ومحمود مسعود في دور "الراكب"، إخراج مسرحي فاروق زكي، وإخراج تليفزيوني منير التوني.
وأعيد تقديمها في 15 نوفمبر 2017 بساحة الهناجر، للمخرج محمود فؤاد صدقي، شارك في بطولة العمل علاء قوقة في دور "مفتش التذاكر"، وصفوت الغندور في دور "الراوي"، ومصطفى حمزة في دور "المسافر"، في حين تؤكد الفنانة معتزة صلاح عبدالصبور، أن هذه المسرحية قدمت في دولة بولندا داخل عربة قطار حقيقية تحرك خلالها القطار في رحلته التي استغرقت ساعة وهي المدة الزمنية للعرض.
وبالنسبة "الأميرة تنتظر"، نشرت هذه المسرحية فى مجلة المسرح عام 1969 وفيها يتعرض لمحنة الأميرة التى تقع فى حيرة الاختيار الصعب ومن المعروف أن الأميرات لا ينتظرن و لكن صلاح عبدالصبور أرادها فى مسرحيته مغلوبة على أمرها في موقف تضطر فيه الى الاختيار بين نجاة الحبيب و ثأر الأب.
بينما "ليلى والمجنون"، نشرت هذه المسرحية عام 1972 وتتناول الموضوعات التى درج على تناولها صلاح عبد الصبور ومركزها العلاقة بين الإنسان والسلطة وقدرة البشر على مواصلة حياتهم فى ظل الظروف الصعبة بل والتعبير عن مشاعرهم بشكل سليم من خلال مشهد أول يدور فى مجلة بالقاهرة حيث تحتضن قصة الحب بين سعيد وليلى وما يتعرضان له من صعوبات وسط أسئلة عن الذات والحرية.
وآخرها "بعد أن يموت الملك"، تطرق إلى السلطة ودوائرها من خلال عرض حياة ملك ظالم وما سيحدث بعد موته من هرب زوجته الملكة مع الشاعر كي تنجب منه، لكن صراعا دراماتيكيا يدور بعد وفاة الملك بين الجلاد والشاعر ينتهى بانتصار الشاعر.
مكرم حيًا وميتًا
حصل المتوفي فى 14 أغسطس عام 1981، على جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية (مأساة الحلاج) عام 1966، كما حصل بعد وفاته على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1982، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعتي المنيا وبغداد، واختير اسم صلاح عبد الصبور -الشاعر العربي الوحيد- في موسوعة أوكسفورد للألفية، ضمن أهم مائة شاعر عالميا، الذين أثروا البشرية منذ بداية تاريخها المكتوب.