نجوم في القلوب عالقة: عباس العقاد.. فتى أحضر «العبقرية» إليه
السبت، 24 يونيو 2023 06:00 ممحمد الشرقاوي
- ناقد أرهق الأدباء وامتزجت في عقله صفات برج «السرطان» ولدعاته
- عملاق الفكر العربي دخل في صدام فكري مع «طه حسين» بسبب «أبو العلاء المعري تحول لخلاف وعداء واصطدم بمصطفى الرافعي
- عملاق الفكر العربي دخل في صدام فكري مع «طه حسين» بسبب «أبو العلاء المعري تحول لخلاف وعداء واصطدم بمصطفى الرافعي
«من قال إنني أعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟ ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما يراه الناس؟ ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟».. قد تكون هذه الكلمات هي الأصدق، في وصف عقلية كاتب أرهق بكلامه الكثير، فأثقل القلوب، وداوى الجراح، ونسج شعراً هجى به من أحب، وأحب به من هجى.
هذه هي الصعوبة الأولى لكي أكتب عن العقاد، القائل: لا أتحدث عن غيرها من الصعوبات، ولكني أضربها مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة، ثم أختصر الطريق، وأنتقل إلى الموضوع من قريب.
سأكمل بهذا النهج الكلام عنه، فإنني لن أتحدث- بطبيعة الحال- عن حياة "عباس العقاد" الذي أفضى إلى ما قدم، فهو الأولى بأن يُسأَل عن ذلك، ولن أتحدث عنه كما يراه الناس، فهم المسئولون، ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه.
اقتبست من كلماته "كتاب أنا" ما نسجت به مقدمتي عنه، وتجمعنا أنا وهو جذور واحدة، نبتت في "دمياط" التي ولدت بها، وعمل هو بها في مصنع للحرير، ولا أقول أني أشبهه، ولا أقول للذين تزدري أعينهم، أحبوا العقاد غصبًا، فأنا لست من عشاقه.. هو شيء آخر، مختلف كل الاختلاف، فهو شخص أستغربه كل الاستغراب، حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى يخطر لي في أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان أعرفه، وأنا لا أعرف غير القليل، أفرح حين يشبهوني به، كطفل فرح قديماً حين أشاد به الإمام محمد عبده، وتوقع أن يكون كاتبًا. أحب هو "مي" وعشقت أنا "مليحة".
يقول العقاد عن نفسه: "أقول: ويل التاريخ من المؤرخين؛ لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيد الحياة، ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرأونه، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط، ولم ينظروا إليه؟! فعباس العقاد هو في رأي بعض الناس - مع اختلاف التعبير وحسن النية- هو رجل مفرط الكبرياء ورجل مفرط القسوة والجفاء.. رجل يعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس. ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه! ورجل يصبح ويمسي في الجد الصارم، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب.
العقاد "سرطان" لاذع
جالت عيني في كتاب "عصر ورجال"، لوزير الإرشاد القومي (الإعلام) في بدايات عهد ثورة 23 يوليو 1952، فتحي رضوان، فأبصرت العقاد عن قرب، كيف لا وهو محاميه، فوجدت رجلًا متقلب المزاج، تتبدل ملامحه بين برهة وأخرى، ترفعه كلمة فيحب، ويكتب شعراً، ويتغزل، ويعدد المناقب، درجة أنه كتب "عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده"، في عبقرية الإمام المجدد، مرتكزاً على حب قديم له، حين زار الإمام مدرسته الابتدائية وتنبأ له ببزوغ فجره، وأن سيكون كاتبًا له شأن، حين طالع موضوع "إنشاء" عن موازنة بين الحرب والسلام.
ذلك الرجل المحب كاره أيضًا، وتحول من مبتسم إلى عابس، حين ألقى دعابة أمام الزعيم مصطفى كامل، في تعقيب على بيت شعر عجز الطلاب عن شرحه، قائلاً إن "السحاب في أسوان التي تشتد فيها الشمس، ويستحب الظل، ليس بالشيء الكروه، حتى لو لم يمطر، ولهذا تعذر على تلاميذ أسوان، أن يفهموا قول الشاعر الذي يذم السحاب، الذي يحجب الشمس ولا يمطر.
وفق فتحي رضوان: "ثبت في نفس العقاد نفور من مصطفى كامل، تزايد مع الزمن، وبقى يلازمه إلى آخر العمر.. قال العقاد نفسه: "حسن تخلص" كنت أقدر من حطيب مثله أن يتقبله بالاستحسان والارتياح، ولكنه تجهم وزوى وجهه، وبدا لي أن الاستدراك عليه -ولو من باب الفكاهة- أمر كثير على طاقته الفكرية (النفسية)".
بالرجوع لتاريخ ميلاد العقاد، الموصوف بعملاق الفكر العربى، 28 يونيو 1889، رجل سرطاني من الطراز الأول، من الصعب أن يتحكم بردات فعله، درجة أن أفعاله زجت به في العزل الشرطي مرات، شخيصة تبقى عالقة في الماضي ومن الصعب ان تنسى أمر جرحها، وهو ما تركزت عليه مواقفه، ولكنها لا تخرج عن حساسية زائدة تسبب المشاكل.
صحيح أن الرجل السرطاني يفرض احترامه، وكلامه مدروس، وحضوره هادئ، لكنه متقد المشاعر، يغرم مرة واحدة في العمر، ودليل ذلك ما تغزل به في "مي زيادة": "أ شيم غرّ رضيات عِذاب وججي ينفذ بالرأي الصواب وذكاء ألمعي كالشهاب وجمال قدسي لا يعاب كل هذا في التراب. آه من هذا التراب".
ورغم أن العقاد في الحب مغازل محترف، يعرف كيف ينتقي الكلمات وكيف يوزع النظرات، إلا أنه توفي في 12 مارس عام 1964 دون أن يتزوج.
ناقد أرهق الأدباء
صاغ عميد الأدب العربي طه حسين، عن العقاد مقولة تجسد عبقرية فكره، فقال: "تسألوني لماذا أؤمن بالعقاد في الشعر الحديث وأؤمن به وحده، وجوابي يسير جدًا، لأنني أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء، لأني حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلو إلى شعر العقاد فإنما أسمع نفسي و أخلو إلى نفسي، وحين أسمع شعر العقاد إنما أسمع الحياة المصرية الحديثة وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث".
هذه الكلمات كشفت عن مقام العقاد في عقل العميد، لكن هذا الصفو تعكر في صدام فكري، بسبب "أبو العلاء المعري"، حين انتقد فتى المولود في أسوان "رسالة الغفران" التي كتبها طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري، وقال فيه: "إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية وفكره لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعري إليها، ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران".
ودار سجال بينهما، ومع مرور الوقت تحول الصدام لخلاف وعداء خاصة وأن طه حسين أخطأ في فهم ما يريده العقاد لكنه أثر الصمت على الدخول في معركة أو تطورها ،فتحول من نقد إلى خلافات لكنها مع ذلك ظلت مستمرة بشكل مبطن في خلافات حول الأدب اللاتيني ومعارك أدبية دون أن يتطرق أحد منهما للآخر، ودامت الخلافات حتى جاءت لحظات الوئام بعدما دافع العقاد عن طه حسين إبان محنته بكتاب الشعر الجاهلي وخالف رأي حزبه حيث كان عضوًا بارزًا في الوفد. وبعد سنوات عندما تحول طه حسين إلى الوفد وكان العقاد كاتبه الأول أعلن في أول مناسبة العقاد أميرًا للشعر، وجرت بينهما مجاملات كثيرة أهدى فيها طه كتاب "دعاء الكروان".
أقسم ذلك الرجل الذي توقف تعليمه عن الابتدائية: "بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق.. ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب.. نقيض ذلك هو رجل مفرط في التواضع، ورجل مفرط في الرحمة واللين، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة؛ رجل لا يفلت لحظة واحدة في ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحًا من مسارح الفكاهة في روايات شارلي شابلن جميعًا هذا الرجل هو نقيض ذاك".
اصطدم عباس العقاد، بمصطفى الرافعي، منذ صدر كتاب "الديوان" للعقاد والمازني، والذي تناول فيه العقاد الرافعي نقدًا واسعًا، واستؤنفت المعركة بصدور كتاب "إعجاز القرآن" للرافعي، الذي سبق وأن امتدحه سعد باشا زغلول في "مسجد وصيف" في الأول من شهر نوفمبر 1926، إذ يقول عنه: "كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم". ولا شك أن هذا القول قد أشعل الموجدة في قلب العقاد تجاه الرافعي لاسيما وأنه كاتب الوفد الأول، وله على سعد مكارم كثيرة.
وحينما التقى الرافعي العقاد صدفة، في مقر المقتطف، كان العقاد على غير طبيعته متجهم الوجه عبوسا، ولم يلبس الرافعي أن ينهي سؤاله عن رأيه في الكتاب، حتى فتح العقاد نارا على الرافعي أشعلت بينهما الصراع الدائم، شكك العقاد في الكتاب وامتد حديثه ليطول القرآن ذاته وإعجازه، حيث دار جزء من الموقف على هذا النحو كما يرويه العريان في كتابه "حياة الرافعي".
وقال الرافعي للعقاد، وكان الحديث يدور بينهما على الورق لأن الرافعي ضعيف السمع: "أنت تجحد فضل كتابي، فهل تراك أحسن رأيا من سعد؟" قال العقاد: "وما سعد وما رأي سعد؟" قال الرافعي، وقد قبض يده على ورقة العقاد: "أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد، وأنت تأكل الخبز في مدحه، والتعلق بذكراه!" رد العقاد: " ما لك أنت وسعد! إن سعدا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه، ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب." ومن هنا ثارت نفس الرافعي التي لم تكن ترضخ لمثل هذا إذ يقول الرافعي عن نفسه: "إنه يخيل إلي دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدا في موقف الجيش تحت السلاح".
العقاد أحضر الدنيا إليه
للعقاد مقولة: "لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى، بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه"، وزاد في وصفه للقراءة التي منحته شهادة الخلود في الذاكرة الأدبية المصرية: "لست أهوى القراءة لأكتب ، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب، وإنما أهوى القراءة لأندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة هي التي تعطيني أكثر من ذلك، سوف تظهر نتائجها من ناحية القراءة". فقرأ التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وقرض الشعر، ونشر ديوانه الأول "يقظة الصباح" عام 1916 وعمره آنذاك 27 عاما، ثم أتبعه بتسعة دواوين أخرى هي، وهج الظهيرة، أشباح الأصيل، أشجان الليل، وحي الأربعين، هدية الكروان، عابر سبيل، أعاصير مغرب ، بعد الأعاصير، ما بعد البعد، حتى تمخض فكره مع كل من إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري في إنشاء "مدرسة الديوان" وهي حركة تجديدية في الشعر العربي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين.
في وصف عقل العقاد، لأن أجد أفضل مما قال أنيس منصور: "إنه يحضر الدنيا إليه، ويحضر التاريخ والأنبياء وأهم الشخصيات في العالم، ليقلب فيها بأنامله، ويحركها ويشكلها ويقرأها ويحكيها كما شاء، وكيفما شاء".
أنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يُصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء. أفي ذلك عار؟! أفي ذلك موجب للحقد والضغينة؟!
كلا! بل فيه مأثرة وفيه فضل جديد على عالم الأدب في هذا الشرق المسكين الذي كان أدباءه لا يرتفعون عن منزلة المضحكين، والندماء المهرجين على موائد الأغنياء والرؤساء، فإذا ارتفعوا عن هذه المنزلة قليلًا أو كثيرًا، فهم لا يرتفعون بفضل الأدب والفن، بل بفضل وظيفة يعتصمون بها، أو شهادة علمية ينتحلون سمعتها، أو ثروة يُحسَبون من أهلها، ثم يُحترَمون لأجلها على الرغم من كونهم كتابًا وشعراء!