سوريا تعود
الأحد، 14 مايو 2023 11:53 ص
سوريا تعود.. تأكيد الحس الوطنى الغالب للمؤسسات المصرية
مؤسسات الدولة وأجهزتها دستورها هو الوطن وتحكمها أجندة وطنية وتبتعد عن أية تحزبات سياسية ومسارها حماية مصالح الدولة والمواطنين
مصر لم تقطع علاقاتها مع سوريا.. فقط خفضت المستوى الدبلوماسي وبعد 30 يونيو رعت الحوار السورى السورى
الصوت المصرى كان واضحاً نحو ترشيد الجموح الدولى للتصعيد العسكرى ضد سوريا ودافعت عن الدولة السورية ومؤسساتها
12 عاماً غابت خلالها سوريا عن جامعة الدول العربية، وظل مقعدها خاوياً، بعدما قرر وزراء الخارجية العرب في 16 نوفمبر 2011 تعليق مشاركة الوفود السورية في الجامعة، ليأتى وزراء الخارجية العرب الأحد الماضى، ويقرروا "استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتباراً من اليوم 7 مايو 2023"، مجددين الالتزام بالحفاظ على سيادة سوريا، ووحدة أراضيها، واستقرارها، وسلامتها الإقليمية، والتأكيد على أهمية مواصلة وتكثيف الجهود العربية الرامية إلى مساعدة سوريا على الخروج من أزمتها انطلاقاً من الرغبة في إنهاء معاناة الشعب السوري الشقيق الممتدة على مدار السنوات الماضية، واتساقاً مع المصلحة العربية المشتركة والعلاقات الأخوية التي تجمع الشعوب العربية كافة، بما في ذلك الشعب السوري وما له من إسهام تاريخي بالحضارة والثقافة العربية.
وبعد القرار، خرج الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ليقول أن الرئيس السوري بشار الأسد يمكنه المشاركة في القمة العربية بالرياض إذا أراد أو رغب في ذلك.
وفى الاجتماع الوزاري العربى، أكد سامح شكرى وزير الخارجية، رئيس الدورة الحالية 159 لمجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري، أن جميع مراحل الأزمة السورية أثبتت أنه لا حل عسكريًا لها، وأنه لا غالب ولا مغلوب فى هذا الصراع، بل حذرت مصر على مدار السنوات الماضية ومنذ بداية الأزمة من تداعيات الصراع المسلح فى سوريا ومحاولة الحسم العسكرى، ولم تلق هذه التحذيرات آذان صاغية، ومن ثم فإننا على اقتناع تام بأن السبيل الوحيد للتسوية هو الحل السياسى بملكية سورية خالصة دون إملاءات خارجية، واستيفاء الإجراءات المرتبطة بتحقيق التوافق الوطنى بين الأشقاء السوريين، وبناء الثقة، ومواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية، على نحو يتماشى مع المرجعيات الدولية وقرار مجلس الأمن رقم 2254، وبما يلبى تطلعات الشعب السورى ويحقق آماله المشروعة فى غد أفضل، ويضمن الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها وسلامتها الإقليمية وعروبتها، وينهى كل مظاهر التدخلات الخارجية فى شئونها بما فى ذلك الاعتداءات على أراضيها، ويفضى إلى القضاء على جميع صور الإرهاب وتنظيماته والفكر المتطرف دون استثناء، ويوفر البيئة المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين والنازحين، ويفتح المجال أمام البناء والتنمية مما سيعزز من عناصر الاستقرار فى الوطن العربى والمنطقة.
ما سبق، ليس لديه معنى لدى ولدى الكثيرين سوى أمر واحد، وهو أن أهم ما يميز المؤسسات المصرية هو الحس الوطني الغالب عليها، لذلك فإنها نادراً ما تتأثر بأية تغيرات سياسية محيطة بها، لأن الأساس الذى تسير عليه هو أجندة وطنية تعلى من المصالح العليا للدولة، وتبتعد عن أية تحزبات سياسية، فكل مؤسسات الدولة المصرية دستورها هو الوطن، ومسارها هو حماية مصالح الدولة والمواطنين.
هذه المقدمة ضرورية لفهم ما يحدث في سياساتنا الخارجية على سبيل المثال، وعلاقانا مع الشقيقة سوريا على سبيل الحصر.
المتداول أن مصر قررت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، في أعقاب إعلان هذا القرار رسمياً من جانب الرئيس المخلوع محمد مرسى مساء السبت 15 يونيو 2013، في مؤتمر "لنصرة سوريا"، حينما وقف بين أنصاره وحلفائه من الإخوان والمتأسلمين، وقال إن مصر "قررت قطع العلاقات تماما مع النظام الحالي في سوريا وإغلاق سفارة النظام الحالي في مصر وسحب القائم بالأعمال المصري" في دمشق.
لكن الحقيقة أن هذا القرار الذى اتخذه مرسى حينها، كان قراراً فردياً منه، وصله من مكتب إرشاد جماعة الإخوان الإرهابية، ولم تكن مؤسسات الدولة المصرية، وم بينها وزارة الخارجية المعنية به، على علم به وبتفاصيله، لدرجة أن وزير الخارجية حينها "محمد كامل عمرو" كان متواجداً في منزله، واستمع للخطاب مثل كل المصريين، وتفاجأ به، وفى اتصال هاتفى به وقتها قال لى أنه لا يعلم شيئاً عن القرار، وأنه لا يقبله.
بعدها أكد وزير الخارجية محمد كامل عمرو أن قرار مرسى بقطع العلاقات مع سوريا، كان بمثابة تغير فى ثوابت السياسة المصرية، لإن مصر وسوريا دولتان سالت دماء شعبيهما سوياً دفاعاً عن الأمة العربية، لذلك كان الموقف المصرى من بداية الأزمة السورية كان واضحاً، وهو الأدق من بين كل المواقف، من خلال الدعوة إلى التفرقة أولاً بين سوريا كنظام وسوريا كدولة، فضلاً عن الوقوف أمام أي محاولة لانهيار سوريا كدولة وكذلك المؤسسات السورية التى لو انهارت فلن توجد دولة، مؤكداً أن غلق السفارة المصرية فى سوريا، كان سيكون له دلالات كبيرة جداً، وسيسجلها التاريخ، لذلك لم تغلق مصر سفارتها، مشيراً إلى أنه طلب وقتها مقابلة "مرسى" فى اليوم التالى من خطابه، وأوضح له أن قطع العلاقات مع سوريا له تبعات معينة، ومنها أن تقوم دولة أخرى برعاية المصالح المصرية فى سوريا والمصالح السورية فى مصر، وهو ما لم يسمح به طالما هو موجود فى منصبى، وابلغه بأن العلم المصرى لن يُخفض على سفارة مصر فى دمشق وكذلك العلم السورى بسفارتها فى القاهرة.
ما شرحه السفير محمد كامل عمرو، هو أحد الدلائل المهمة على الحس الوطنى للمؤسسات المصرية، الذى لم تتخلى عنه مهما حدث، والمؤسسات المعنية هنا ليست الخارجية فقط، وإنما القوات المسلحة، والأجهزة الأمنية والمعلوماتية، وفى مقدمتها "المخابرات العامة" ووزارة الداخلية، فكل هذه الأجهزة والمؤسسات تسير وفق ثوابت واضحة، لا تتغير بتغير الأشخاص.
لذلك فإن الدولة المصرية، لم تقطع علاقاتها مع سوريا، وإنما قامت فقط بتخفيض المستوى الدبلوماسي، وكان ذلك مرتبط أيضاً بالأوضاع الأمنية المتوترة هناك، كما بقيت القنصلية المصرية تؤدى دورها ومهامها حتى اليوم، لخدمة المصريين المقيمين في كافة الأرجاء السورية.
ترشيد الجموح الدولى نحو التصعيد العسكرى ضد سوريا
وبعد ثورة 30 يونيو 2013، وتحديداً في 2014 رعت القاهرة الحوار السورى السورى، وكان الصوت المصرى واضحاً نحو ترشيد الجموح الدولى نحو التصعيد العسكرى ضد سوريا، ودافعت الدولة المصرية كما هي اليوم عن الدولة السورية ومؤسساتها، ولم تخضع قط لأية ضغوط خارجية حاولت تليين الموقف المصرى، أو على الأقل تحييده، لأن مصر في مثل هذه المواقف لا تقبل مبدأ الحياد، وإنما موقفها واضح، وهو أنها ستقف دوماً خلف الدولة الوطنية في سوريا وكافة الدول العربية، ولن تسمح لأحد أن يكون سبباً في انهيار المؤسسات الوطنية.
ومع توقف الاعمال العسكرية في سوريا بدأت وتيرة الاتصالات المصرية السورية تعود تدريجياً، وفى الخامس والعشرين من سبتمبر 2021 حدث أول لقاء رفيع المستوى بين وزيرا خارجية مصر وسوريا في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم الزيارة التي قام بها مؤخراً الوزير سامح شكرى إلى دمشق لتقديم التعزية في ضحايا الزلزال المدمر، كما أجرى الرئيس عبد الفتاح السيسى اتصالاً مع الرئيس السورى بشار الأسد في السابع من فبراير الماضى، للتعزية في ضحايا الزلزال، حيث أعرب الرئيس السيسي خلال الاتصال الهاتفي عن خالص التعازي في ضحايا الزلزال المدمر، والتمنيات بالشفاء العاجل للجرحى والمصابين، مؤكداً تضامن مصر مع سوريا وشعبها في هذا المُصاب الأليم، مشيراً إلى أنه وجه حكومته بتقديم كافة أوجه العون والمساعدة الإغاثية الممكنة في هذا الصدد إلى سوريا.
وفى الأول من إبريل الجارى حل وزير خارجية سوريا فيصل المقداد ضيفاً على القاهرة، في زيارة هي الأولى لمسئول سورى بهذا المستوى منذ عشر سنوات تقريباً، قال عنها السفير أحمد أبو زيد المتحدث باسم وزارة الخارجية في بيان الوزارة إنه " على ضوء ما يربط بين البلدين من صلات أخوة وروابط تاريخية، وما تقتضيه المصلحة العربية المشتركة من تضامن وتكاتف الأشقاء فى مواجهة التحديات الإقليمية والدولية المتزايدة، فقد تناولت المباحثات سبل مساعدة الشعب السورى على استعادة وحدته وسيادته على كامل أراضيه ومواجهة التحديات المتراكمة والمتزايدة، بما فى ذلك جهود التعافى من آثار زلزال السادس من فبراير المدمر، بالإضافة إلى جهود تحقيق التسوية السياسية الشاملة للأزمة السورية، وقد جدد الوزير شكرى فى هذا الصدد دعم مصر الكامل لجهود التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية فى أقرب وقت بملكية سورية وبموجب قرار مجلس الأمن رقم 2254 تحت رعاية الأمم المتحدة، مؤكدًا على مساندة مصر لجهود المبعوث الأممى الخاص إلى سوريا ذات الصلة، وعلى أهمية استيفاء الاجراءات المرتبطة بتحقيق التوافق الوطنى بين الأشقاء السوريين، وبناء الثقة، ومواصلة اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، كما نوه شكرى خلال اللقاء، إلى أن التسوية السياسة الشاملة للأزمة السورية من شأنها أن تضع حدًا للتدخلات الخارجية فى الشئون السورية، وتضمن استعادة سوريا لأمنها واستقرارها الكاملين، وتحفظ وحدة أراضيها وسيادتها، وتصون مقدرات شعبها، وتقضى على جميع صور الإرهاب والتنظيمات الارهابية دون استثناء، وتتيح العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين، بما يرفع المعاناة عن الشعب السورى الشقيق وينهى أزمته الممتدة، الأمر الذى سيعزز من عناصر الاستقرار والتنمية فى الوطن العربى والمنطقة".
ووفقاً لبيان الخارجية أيضاً، فقد نقل الوزير المقداد تقدير بلاده لدور مصر الداعم والمساند لسوريا وشعبها على مدار سنوات الأزمة، مقدمًا الشكر للمساعدات الاغاثية الانسانية التى قدمتها مصر فى أعقاب الزلزال، ومعربًا عن تطلعه لأن تشهد المرحلة القادمة المزيد من التضامن العربى مع سوريا كى تتمكن من تجاوز أزمتها وتضطلع بدورها التاريخى الداعم لقضايا أمتها العربية. وفى هذا الإطار، استعرض الوزير المقداد مختلف جوانب الأزمة السورية، بما فى ذلك التحديات الاقتصادية والإنسانية والأمنية التى واجهها وما زال يعانى منها الشعب السورى.
وفى ختام الزيارة اتفقا "شكرى والمقداد" على تكثيف قنوات التواصل بين البلدين على مختلف الأصعدة خلال المرحلة القادمة، بهدف تناول القضايا والموضوعات التى تمس مصالح البلدين والشعبين المصرى والسورى الشقيقين.
سياسة تدريجية
كل ما سبق يشير إلى أننا أمام سياسة مصرية متطورة تجاه سوريا تقتضى التدرج وتحقيق المصلحة المشتركة للبلدين، أخذا في الاعتبار مجموعة من العوامل المهمة، التي لا يجب أن تغيب عن المتابع لمسار الأحداث، أولها أنه بالإضافة إلى الوضعية التي تحتلها سوريا في التفكير والاستراتيجية المصرية، فإن هناك احساس شعبى مصري بأن سوريا تعرضت لمؤامرة كبيرة خلال السنوات الماضية، وهى اليوم بحاجة إلى من يعاونها للخروج من ازماتها الحالية، سواء السياسية او الاقتصادية، وأن مصر تملك كافة المقومات التي تستطيع من خلالها تقديم المساعدة للأشقاء في سوريا.
والحقيقة أن هذا الإحساس ليس شعبياً فقط، وإنما التقدير الرسمي يقترب منه بشدة.
العامل الثانى أن الدولة المصرية وهى تتعامل مع الأزمة السورية، فإنها أيضاً تراعى الاعتبارات الدولية، وكما حاولت بعد 2013 أن توقف الجموح الدولى نحو التصعيد العسكرى ضد سوريا ونجحت في ذلك، فإنها اليوم لا تريد أن تزيد المصاعب على السوريين، فإنها تتواصل مع كافة الاشقاء العرب والأصدقاء الدوليين، للتوصل إلى حلول سلمية تجنب الجميع التصعيد، وتضع حداً للتوترات.
ولا ننسى هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تعمل بوثيقة قيصر، التي تستخدمها لفرض عقوبات ضد كل المتعاملين مع سوريا، لدرجة أن دولاً كثيرة خشيت من إرسال معونات إنسانية لسوريا خوفاً من تداعيات هذه الوثيقة.
لذلك فإن الرؤية والتحركات المصرية تسير في اتجاه التهدئة الشاملة، وتهيئة الأوضاع لمسارات سياسية، تجنب سوريا مزيد من التعقيدات والعقوبات والخسائر، وتفتح الباب للمجتمع الدولى ليكون فاعلاً في الحل وليس دافعاً لمزيد من التعقيدات.
ومن خلال رصد الاتصالات المصرية السورية مؤخراً، يمكن استنتاج أن هناك رغبة سورية أكيدة تم إبلاغها للقاهرة برغبتها في تلبية ما يريده الشعب السورى بإقامة حوار سورى سورى والتفاعل مع مقررات الشرعية الدولية، والدفع نحو مسار يؤتى نتائج ايجابية للشعب السورى، وهو أمر تقدره القاهرة جيداً في ضوء ملاحظاتها للتغيرات الإيجابية في الخطاب السورى الرسمي، فضلاً عن الانفتاح الذى تبديه دمشق أمام عواصم عربية وأخرى إقليمية مهمة ومعنية بالأمر، من خلال فتح قنوات اتصال متدرجة للوصول إلى صيغ يمكن من خلالها بدأ حوارات سياسية يكون لها تداعيات إيجابية على الداخل السورى، مستفيدة في الوقت نفسه من التغيرات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن، والتي تدفع بدول كان بينها تباين واضح في المواقف والاتجاهات إلى الجلوس معاً والتفكير في المستقبل، بعد معالجة أخطاء الماضى.
هذا المبدأ أعتقد أن السوريين يؤمنون به، ويدركون أهميته في ظل التغيرات الجارية الآن بالمنطقة.
كل ما سبق هو إشارة مهمة للعلاقات المصرية السورية التي تحكمها أطر وطنية لا تراجع عنها، وتحركات مصرية تستهدف دفع الحل السياسي في سوريا، معتمدة على مجموعة من المبادئ والأهداف الواضحة، تتمثل في دعم جهود المبعوث الأممي للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة بملكية سورية اتساقاً مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، في ظل الأولوية الكبيرة التي توليها مصر لاستعادة أمن واستقرار سوريا الشقيقة وإنهاء كافة صور الإرهاب والتدخل الأجنبي بها، على أن يتوازى ذلك مع البحث عن سبل رفع المعاناة عن الشعب السوري الشقيق.
اليوم وقد عادت سوريا إلى الحضن العربى مرة أخرى، فإن الأمل الذى يراود الجميع، هو تفعيل مسارات آليات العمل العربى المشترك من أجل رفع معاناة الشعب السورى العزيز، وأن يقف العرب جميعاً إلى جوار الأشقاء السوريين، ومساعدتهم على طى صفحة حزينة وطويلة من تاريخه وتاريخ الشعوب العربية، لإن سوريا وشعبها يستحقون الكثير منا.