رسيس الهوى.. درس في الوفاء

الأحد، 14 مايو 2023 10:47 ص
رسيس الهوى.. درس في الوفاء

للكتب حظوظ كحظوظ بني آدم، بعضها يحلق في سماء الشهرة والذيوع، وبعضها يعيش ويموت مغمورًا، مع جودته الفائقة، ثم أنت تنتظر كتبًا بعينها وتسعى للحصول عليها فإذ بحواجز تقوم بينك وبينها كأنها بنت السلطان التي تحتمي بأسوار قصر أبيها، ومن الصنف الأخير يأتي كتاب" رسيس الهوى.. بقية تراث شيخ العربية محمود محمد شاكر" لصاحبه الكاتب الأستاذ عبد الرحمن بن حسن قائد.
سمعت بالكتاب وعرفت بعض مادته ثم لم أجد طريقًا إليه إلا قبل أيام فتبارك ربي وتعالى المنعم الوهاب.
رسيس الهوى شرحها الأستاذ قائد فقال:" إن «الرَّسِيسَ» أصلُ الحب، وقالوا هو ابتداء الهوى وآخره، وهو بقيته في القلب ودفينُه، وهو مسُّه وحنينُه".
ثم يخطو الأستاذ قائد خطوة موفقة في تقرير حقيقة الشيخ الأستاذ شاكر فيقول: "رأيتُ أبا فهرٍ مظلومًا من رجلين: رجل أسرف في محبَّته، وبالغ في تعظيمه، وتوهَّم فيه الإحاطة بالعلم، والإشرافَ على اليقين، وظنَّه قولًا لا يسهو، ونظرًا لا يكلُّ، وميزانًا لا يجور. ورجل غضب من تعصُّب طائفة من أشياعه له، واستفزَّه غلوُّ بعض أنصاره فيه، فاجتهد في تتبُّع عثاره، وتقصِّي عيوبه، حتى أدَّاه ذلك إلى جحد حقِّه، وغمطِ صوابه. وكلاهما مجانفٌ لسبيل الإنصاف، مخالفٌ عن أمر العدل، متبعٌ حظَّ نفسه، مستجيبٌ لداعي هواه، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا".
الأستاذ قائد، أنفق ما أنفق من وقته وجهده تقربًا لذكرى شيخه الأستاذ شاكر، فقد عرف قائد شاكرًا فقال في توثيق تلك المعرفة: "قرأت له وأنا غلامٌ حدثُ السنِّ في المرحلة المتوسطة (الإعدادية) كتابيه «المتنبي» و«أباطيل وأسمار»، وكَلِفتُ بهما كلفَ الصبيِّ، ولزمتهما لزوم الغريم، وما بك حاجةٌ لتسأل عن مبلغ ما فهمتُ منهما وما جهلت، فما هو إلا ما ظننتَ، ولئن فاتني أن أظهر يومئذ على جميع مقاصده، وأحيط بقريب مراده وبعيده، فحسبه أن ترك في نفسي من حبِّ العربية، وتعظيم الشريعة، وإجلال الصواب، واستبشاع الخطأ، والأنفة من التقليد، والرغبة إلى التحقيق، والميل عن سبيل المتعالمين وأدعياء الثقافة، والنفور من الباطل وإن أقبل في طيلسان الشُّهرة، ووقر في قلبي الغضِّ من حبِّ أبي فهر، والثقة بعلمه، والإعجاب بمضائه وقوة عارضته، والحماسة لحماسته للإسلام ونفرته من المستشرقين وأدعياء العلم وأذناب الاستعمار ما وقر، ولقد تعلمُ أثر ذلك في القلب الغض".
كان الأستاذ قائد وفيًا لمنهجه في إعداد الكتاب القائم على نشر كتابات الأستاذ شاكر التي لم يضمها كتاب من كتبه، وبعض تلك الكتابات يعود تاريخه إلى ما يقرب من تسعين سنة!
من تلك المقدمات، المقدمة الطويلة التي كتبها الأستاذ شاكر لكتاب «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك» بتحقيق صديقه الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.
وقد لاحظ الأستاذ قائد ملاحظتين، الأولى هي أن تلك المقدمة قد كتبها شاكر في العام 1933 وعمره يومئذ أربع وعشرون سنة.
والملاحظة الثانية والأخيرة هي: أن أبا فهرٍ هو من طلب كتابة هذه المقدمة، على خلاف المألوف في كتابة المقدمات؛ ذلك أنه لم يُرِدها مقدمة تقليدية تثني على المؤلف أو المحقق وتعرِّف بكتابه، وإنما أراد بها تحرير القول في مسائل من نشأة اللغة وعلم النحو تحريرًا موجزًا يلخص ما انتهت إليه دراسته لهذه المسائل، ثقةً بامتلاء إنائه وأوان فيضِه.
وبعد نشر المقدمات، قام الأستاذ قائد بنشر المقالات التي لم تظهر في الكتاب العظيم" جمهرة مقالات شاكر" الذي أعده بإخلاص نادر تلميذ الشيخ شاكر الأستاذ الدكتور عادل سليمان جمال.
يتوقف الأستاذ قائد عند ثلاثة مقالات من بواكير ما خطه الأستاذ شاكر فيقول: "تظهر في مقالاته الأولى حماسته الفتيَّـة للإسلام، وغيرته على حدود الدين، وحمله همَّ نصرته، واستشعاره واجبه في الذود عنه، كما في مقاله الذي عنونه بـ«معجزة الدهر.. الدولة الإسلامية الكبرى في ثمانين عامًا»، ونشره في ذي الحجة سنة 1345- يونيو 1927، وهو في الثامنة عشرة من عمره في سنته الثانية بالجامعة المصرية، وهو أقدم ما وصلنا من مقالاته.
ثم في مقالَيه في شهر ربيع الأول من السنة التي تليها 1346- سبتمبر 1927في الرد على الشيخ علي عبد الرازق الذي كتب في مطلع ذلك الشهر بمناسبة ذكرى المولد النبوي مقالًا في جريدة «السياسة الأسبوعية» نفى فيه أن يكون للنبي ﷺ عظمةٌ غير عظمة كلمة التوحيد، فأثار مقاله غضب كثير من أهل العلم، وتناولوه بالردِّ والتعقيب، ومنهم شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين، كما بيَّنت في حاشية المقال هناك.
ومما قاله محمود شاكر في صدر مقاله الأول: «نشر علي عبد الرازق في جريدة السياسة مقالًا تحت عنوان «محمد» يوم الخميس 12 ربيع الأول سنة 1346، فما كنَّا نودُّ أن نتحرَّك للرَّدِّ بعد ما قام إخواننا المخلصون بواجبهم في الردِّ، وفيهم الكفاية التامَّة، مع عجزنا وضعفنا. كلنا يعلم أن المقال لم يكن موضوعًا علميًّا حتى تنبري له كلُّ هذه النفوس لتردَّه مذمومًا مدحورًا، ولكن خشية أن تغرَّ أمثال هذه الألفاظ الجوفاء شبابنا الناهض قام المخلصون بواجبهم في ردِّ مثل هذه الأقوال، ونِعمَّا هذه الردود، فالوقت الذي نحن فيه طورٌ عنيفٌ من أطوار حياتنا انتابت عقول الكثيرين الشكوك، وما أسرع ما يلقط عقلُ الشَّاكِّ أمثال هذه الأقوال المرذولة»، وهو شاهدٌ قريب الدلالة لما قدَّمناه من غيرته على حدود الشريعة وحماسته للدفاع عنها".
أي رجل كان الأستاذ شاكر؟
شاب في عمر المراهقة يكتب عن دولة الإسلام ثم يتصدى للرد على شيخ جليل شهير هو الشيخ الأستاذ علي عبد الرازق، فأي قراءة قرأ وأي علم تعلم؟
وقد أحسن الأستاذ قائد عندما قام بنشر حوار مهم جدًا، أجرته مجلة الفيصل مع الأستاذ شاكر في العام 1979، وهذا الحوار يقوم بعضهم باقتطاع سطور منه ليدلل بها على ظلم شاكر للمستشرقين.
وعندما نقرأ نص السؤال ونص إجابة شاكر نجد أن الشيخ الأستاذ قد قدم حيثيات لحكم حكم به على عمل الاستشراق في أمتنا، وسأقوم الآن بنقل نص ما قاله الشيخ شاكر لكي يكف هواة التلاعب بالنصوص عن تلاعبهم.
سألت المجلة: "إلى أي حد خدم المستشرقون قضية تحقيق تراثنا؟".
أجاب الأستاذ شاكر: "تسألني عن هؤلاء، إنهم لم يخدموا إلا أنفسهم، لم يتركوا لنا فرصة لمعرفة تراثنا.
لقد سبق أن قلت في أكثر من موضع في كتابي "أباطيل وأسمار" قلت إن الاستشراق والسياسة والتبشير، وجوه لعملة واحدة، إن رسالة المستشرقين تبشيرية، وهم يتظاهرون بالعلم، مع أنهم أضعف خلق الله في المعرفة، المستشرق إنسان فشل في أن يكون شيئًا ظاهرًا في أمته، يئس من أن يكون أديبًا، من هؤلاء حتى يقدموا لي تاريخ أمتي؟ إنهم لم يكونوا أكثر من موظفين في وزارة الاستعمار الإنجليزية والفرنسية، إنهم لا يعرفون لغتنا العربية فكيف يشرحون لنا تراثنا".
وبعدُ فهذا الكتاب هو درس في الوفاء والإخلاص لعلم من أعلام أمتنا، لعلنا ننتفع به.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق