فليت الذي بيني وبينك عامر (1).. الحلاج: وللحب بقية
الأحد، 26 مارس 2023 12:23 صمحمد الشرقاوي يكتب:
ما من أمنية أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته، يستغفر ويحمد ويدعو الله، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح التائهة.
الشوق أحد منازل العمار، إن لم يكن جُله، والهيام، والشعر، والموسيقى أيضًا.. لن يهم أحد الوسيلة بل الأهم غايتك في الرحلة، وتجمل روحك وراحك، وتدرك بذلك ماهية الحب غير المشروط، أن تحب، بلا توجس، وبلا انتظار، وبلا سبب، كل ما عليك أن تجود بالوصل، أو تدين بالحب، ولله در الإمام محي الدين بن عربي: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه.. فالحب ديني وإيماني".
ومما كتب في الوصل، ما قاله الإمام أبو الحسن التستري، أحد شعراء الأندلس: "كلما قلتُ بقربي تنطفي نيرانُ قلبي.. زادني الوصلُ لهيبًا هكذا حالْ المحبِ.. لا بوصلي أتسلى لا ولا بالهجر أنسى.. ليس للعشق دواءٌ فاحتسبْ عَقلا ونفسا.. إِنني أسلمتُ أمري في الهوى معنى وحسّا.. ما بقى إِلا التفاني حبذا في الحب نحبي".
ويريد أن يقول: "إنه لا يمكن للعارف أن يقول أنه وصل أو شَرِبَ وارتوى لأن الحب شُربٌ بلا ري، وهو تجلي إلهي على عباده الصالحين والعارفين ومن لم يذقه شرباً ما عرفه، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها".
على مدار شهر رمضان الكريم، نطرق أبواب المحبين علنا نصل، وعلّ نيران الشوق تنطفئ، ولهيبها يُخمد، نجول في عقلوهم، ونخطو على مهل نحو العمار، ساعين في الوصال والحب والإمدادات الروحانية، نجول بتلك الرحلة مع العارفين، نتذوق معهم معنى العشق الإلهي، لنرى بعيونهم، ونشعر بوجدانهم، ما ذاقوه خلال رحلاتهم، وإن كانت مختلفة، فهي متشابهة للبحث عن الذات، عن روح الله التي بثها في نفوسنا.
الحلقة الأولى
الحسين بن منصور.. رجل أدفاً بقلبه مياه دجلة والفرات
شهيد الصوفية الذي أنهك قلوب الحاقدين
عجبت منك ومني.. يا منية المتمني، أدنيتني منك حتى.. ظننت أنك أني
شهيد الصوفية الذي أنهك قلوب الحاقدين
عجبت منك ومني.. يا منية المتمني، أدنيتني منك حتى.. ظننت أنك أني
"والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت.. إلا و حبّك مقـرون بأنفاسي، ولا خلوتُ إلى قوم أحدّثهم.. إلا وأنت حديثي بين جلاسي، ولا ذكرتك محزوناً و لا فَرِحًا.. إلا وأنت بقلبي بين وسواسي".. لك أن تتخيل أن إنسان وصل لهذه الدرجة من العشق الإلهي أن يُعدم ويُمثل بجسده لاتهامه بالزندقة.
ويا فتى الحي إن غنيت لي طربًا.. فغنني واسفًا من قلبك القاسي، مالي وللناس كم يلحونني سفها.. ديني لنفسي ودين الناس للناس".. قلبك لن يقبل مثل هذا الحكم على محب لرسول الله، يدعى أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج، الصوفيُّ الأكثر إثارةً للجدل في التاريخ الإسلامي، والأعمق أثرًا.
فالشاعر المحب تجرد حتى من خرقته الصوفية، فوضعها، وارتدى نزعته الإصلاحية، وتنقل بين البلاد والعباد، يتحدث إليهم بما في قلبه، فمنهم من يفهمه حينًا ولا يفهم أخرى، لكن في كل الحالات افتتنوا بسهل كلامه، حتى أن البعض أنزله منزلة الأولياء الصالحين، وهو من ذلك براء.
مفتاح شخصية الحلاج
"العين تبصر من تهوى وتفقده .. وناظر القلب لا يخلو من النظر".. يقول الكاتب طه عبد الباقي سرور، في كتابه: "الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)": "مفتاح شخصية الحلاج هو حبه الإلهي، فهو سمته وطابعه، وهو الذي شكل ملامحه الروحية، وكون معارف الذوقية، وهو معراجه الذي صعد عليه، مستهدفًا الوصول إلى شيء يدق على التعبير، ويسمو على التصور والتصوير، إلى الفنا في المحبوب الأسمى، فناء يمنحه الخلود والبقاء، ويضفي عليه بهاء الرجل الإلهي.
يضيف: "عاش الحلاج بالحب وللحب، فهو قوته الروحي، وغذاؤه القلبي، وهو ملهب أشواقه، ومبدع مواجيده، ومطلق ألحانه،
وهو أفقه الفسيح المتلألئ، الذي تترقرق فيه الأنوار، وتتجلى فيه الأسرار.
لقد امتلأت حقائب التاريخ الصوفي، وغيره من تاريخ الرجال والطبقات، بالحديث عن عجائب الحلاج وخوارقه، واختلف الناس في أمرها، دندنوا طويلًا حولها. نسبها قوم إلى السحر والشعوذة، والبراعة في الطب والكيمياء، والقدرة على تسخير الجن!.. يضيف "سرور" في باب بعنوان: "مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة": "وآمن بها آخرون على أنها كرامات وآيات، تدل على صدقه وولايته، ومقامه وإيمانه.
ويقول العلامة الخطيب البغدادي، صاحب "تاريخ بغداد": "اختلف الناس في آمره، فقال قوم: ساحر!، وقال قوم: مجنون!، وقال قوم: له الكرامات، وإجابة الدعوات".. يشير الكتاب، أن أصدقاء الحلاج وخصومه قد أجمعوا جميعًا على حدوث هذه الخوارق، فابن كثير، وابن خلكان، والخطيب البغدادي، وابن النديم من رجال التاريخ العام، والشعراني والمناوي والسلمي من مؤرخي الطبقات الصوفية قد أجمعوا على أنه كان يخرج فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده في الهواء فيعيدها مملوءة دراهم، قد كتب عليها - قل هو الله أحد- ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوا وما صنعوا في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم".
خلاف الحلاج والمتصوفة والخليفة
اصطدم المولود في منتصف القرن الثالث الهجري، مع مذهب معلمه الجنيد البغدادي، فقد كانوا هم يبيتون أمرهم على كتم مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم، وكانوا يؤثرون العزلة على الناس، تاركين أمر تدبير الخلق لله، أما هو فقد تملكته نشوة التعبير، فجهر بأفكاره وإحساساته في الأسواق ولعامة الناس.
بكلمات بسيطة عبر الحلاج عن مذهبه وفهمه لرسالة الدين، منها: "روحه روحي وروحي روحه إن يشأ شئت وإن شئت يشا، تركت للناس دنياهم ودينهم.. شغلًا بحبك يا ديني ودنيائي".. يقول كتاب "... شهيد التصوف الإسلامي"، إن الحلاج اصطدم بالجنيد ومدرسته، اصطدامًا أساسه الاختلاف الجذري في فهم رسالة التصوف عامة، وصلة التصوف بالحياة خاصة، أخذ أيضًا يصطدم ويصارع كافة القوى التي تهيمن على بغداد، اصطداماً وصراعاً أساسه الاختلاف الجذري أيضًا في فهم رسالة الإصلاح السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي.
وفي أواخر القرن الثالث الهجري، وصلت بغداد من قمة الحضارة إلى بداية التحلل والانحدار، وعاث الناس فيها فسادًا، وأخذت الصلابة العربية تتهاوى، وأخذت الفكرة الإسلامية تلين وتتوارى، يقول الكاتب "سرور": أسرفت بغداد على نفسها في السفح الفلسفي، وفي الابتداع المذهبي، وفي الجدل العقلي، حتى أصبحت أنديتها أروقة للسفسطة والحوار، وغدت مساجدها ساحات للعراك والقتال بين الحنابلة والأشاعرة والمعتزلة، والصوفية والمنجمين والسحرة والفلاسفة، فتمزقت وحدتها الفكرية، وانحلت أخوتها القلبية، وتبددت ثروتها الأخلاقية!
وفي ظل هذا الصخب الذي تموج به عاصمة الدولة العباسية، جاء الحلاج بمنهج بريقه التصوف طغت عليه الروحانية والإشراق، منهج روحي مدفوع بحب- أراه كقارئ في حياته- أدفء به مياه الفرات، وسياسي قوامه حكومة الأتقياء الأولياء الذي يملئون الأرض الأرض عدلاً وقسطًا، وقال الحلاج نفسه عن ذلك: "خلافة ربانية تشعر بمسؤوليتها أمام الله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صيام وصلاة، وحج وزكاة".
لن تقوم لقائد ثورة الإصلاح قائمة
يقول المستشرق نيكلسون عن الحلاج- وفق سرور: "انقسم الناس إلى حلاجية وخصوم للحلاجية"، بينما يقول ماسنيون: "إن الحلاج أحيا بمنهجه هذا، وبحميته الثائرة، وبشخصيته الباهرة، الآمال العريضة، والأحلام الجميلة، التي كانت تعيش في أعماق الأمة الإسلامية، فالتفت حوله الجماهير، واندفع في تياره كثير من الأمراء والوزراء والقادة".
لقد بدأ الانقلاب على الحلاج من أقطاب الصوفية والداعمين للخلافة، فأحاطت به الأحقاد، حتى لقبه الجنيد البغدادي: "رجل المطامع"، وقالوا إنه ينشد الخلافة لنفسه، وعزز هذه النظرة هجومه على المنتفعين من الخلافة، فهاجم الشيعة وطالب بعزلهم عن الخراج ولم يعترف بـ"التقية"، وهاجم المعتزلة، لأنهم أهملوا دعوة الإصلاح والحرية، ولم يسلم منه الوزراء.
صاغ الحلاج رسائل سياسية، تحدث فيها عن منهجه في الإصلاح العام، وأوضح بها واجبات الوزراء وحقوق الرعية، وتحدث عن الخلافة الربانية وعن المثالية الخلقية والحقوق الاجتماعية. خرج الأمر عن السيطرة، وانضم تلاميذ الحلاج لثورة ابن المعتز الشاعر العباسي، والذي كان يرى نفسه أحق بالخلافة من الخليفة "المقتدر"، فقاد حركة عسكرية، وجعلوا من الحلاج زعيماً للحركة، والتي سرعان ما فشلت، وأعيدت الخلافة إلى المقتدر وكان أول أوامر الشرطة القبض على الحلاج وأتباعه، ولكنه نجا وحصل على عفو من الخليفة بل وأصبح سيدًا في القصر، ولكن سرعان ما دارت الدنيا، وقدم للمحاكمة.
عرض الحلَّاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه.
محاكمات الحلاج
سرد كتاب: "الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي"، المحاكمات التي تعرض لها الحلاج بالتفصيل – لمن أراد الرجوع لها- يقول الكتاب: "رأى الحلَّاج أن دعوته قد تعرضت للخطر، وأن منهجه الإصلاحي أصبح في مهب العاصفة، وأن الساعة الحاسمة تقترب من القمة.. لقد تغير عليه قلب الخليفة، وتجرأ خصومه في القصر وخارجه، وأعلنوها بغضاءَ سافرةً، وبدأت نذر العاصفة تطرق عليه الأبواب.. كما أدرك في جلاءٍ مبينٍ، أن أساليبه السلمية التي استُهدف بها تحقيق رسالته، عن طريق القصر وصداقات القصر، أصبحت لا تُحقق هدفًا، ولا تملك أملًا، فأخذ يحرك أتباعه من الوزراء وقادة الجيش، ليتخذوا موقفًا إيجابيًّا في مقاومة فساد الحكم وانحرافه عن رسالة الإيمان والدين، كما أخذت رسائله تتوالى على أنصاره من العلماء والأدباء، يعدهم ويعبئهم للمعركة السافرة، وعادت اتصالاته بالجماهير تتسع وتقوى، يحرك وجدانهم، ويثير مشاعرهم، ويلهب فيهم روح المقاومة ضد ما يتعرضون له من استغلالٍ، وما يلقون من هوانٍ".
ودخل الحلَّاج المعركة، وحمل عبئها ومسئوليتها، وكانت طلقته الأولى في القمة، في مجلس وزراء الخليفة، وابتدأ الصراع بين الوزراء الحلَّاجيين، وخصومهم من الوزراء، صراعًا سافرًا مريرًا.
واستطاع أنصار الحلَّاج في الوزارة، أن يصدروا أول بيانٍ تاريخيٍّ منهجيٍّ في العالم الإسلامي، لميزانية الدولة الإسلامية، على أسسٍ اشتراكيةٍ، واستطاع به أن يعيد تنظيم سياسة الدولة المالية، وأن يخفف من قسوة الضرائب، وأن يتجه بفائض المال إلى الخدمات العامة، بدلًا من إنفاقه على الخليفة وحاشيته!
نجح الوزير حامد بن العباسي خصم الحلَّاج الأكبر، في تأليب الخليفة عليه، لكن الخليفة جبن، فلجأ حامد إلى السلاح الديني الشرعي، فاتصل بأحد أعضاء محكمة القضاء الكبرى ببغداد، وهو الفقيه الظاهري محمد بن داود، وكان شاعرًا هلوكًا يبغض الحلَّاج ويمقت التصوف، فأغراه بالمال، ومنَّاه بالآمال، وحرَّضه باسم الخلافة والخليفة، واستغل محمد بن داود مركزه الشرعي، فرفع أمر الحلَّاج إلى المحكمة العليا طالبًا محاكمته، والحكم بقتله، بدعوى الشعوذة وادعاء الألوهية!
وجنَّد الوزير حامد الشهود ليوم المحاكمة، فأعد رجلًا من غمار الصوفية، لقنه أن يقول إنه سمع الحلَّاج يتحدث في درسه الصوفي بمسجد المنصور قائلًا: أنا الحق! وجاء برجلٍ آخر من العامة ليشهد بأنه من أتباع الحلَّاج، وبأن الحلَّاج إله! وأنه يحيي الموتى!
وحضر الحلَّاج المحاكمة في دار القضاء العالي، وواجه الشهود. يقول المؤرخ ابن كثير: "وأنكر الحلَّاج ما نُسب إليه، وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية، أو النبوة، وإنما أنا رجلٌ أعبد الله، وأُكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، ولا أعرف غير ذلك، وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد، ويكثر أن يقول: سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وهنا انتصر للحلَّاج القاضي الشافعي ابن سُريح قائلًا: "إن مثل هذا لا يدخل في القضاء، والأدلة غير ثابتةٍ، والدليل لا يوجد". وفشلت المحاكمة.
أسرع الوزير حامد، فأصدر أمرًا بتشكيل هيئة قضاء أخرى برئاسة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وعضوية القاضي أبو جعفر بن البهلول وجماعة من الفقهاء، وأُعيد الاتهام وجاءوا بالحلَّاج وتوالى الاتهام: هل أنت إله؟! هل تحيي الموتى؟! هل تخدمك الجن؟! هل تصنع ما تحب عن طريق المعجزات؟! كما يقول الشهود.
وفي السجن كتب العلم
وأنكر الحلَّاج ما نُسب إليه بشدةٍ، وسخر من شهوده بقوةٍ، وقال: أنا عبدُ الله، أؤمن به وبرسله، وأدعو إلى الحق، وأنشد الخير للمسلمين، ولا أُقِرُّ الظلم، ولا أعرف هؤلاء الشهود، ولا أقول غير هذا وأعوذ بالله من الدعوى. وتعالت صيحات الجماهير الغاضبة خارج دار القضاء، ووجد القضاة أنفسهم بين شقي الرحى. فعادوا إلى الوزير حامد ليبلغوه بأنهم لم يجدوا ما يوجب قتل الحلَّاج، ولا عقابه، وأنه لا يجوز قبول ادِّعاءٍ إلَّا بدليلٍ أو إقرارٍ!بدأت مرحلة جهادٍ مريرة، أخذ الحلَّاج يضع فيها أخلد كتبه وأبقاها، وفي طليعتها كتاب "طاسين الأزل" الذي أنقذه من الفناء الذي صبته الخلافة العباسية على تراثه، صديقُه الوفي، ابن عطاء سنة ٣٠٩ﻫ، في اللحظات الأخيرة، وأخذت شخصية الحلَّاج ونفوذه يلعبان دورهما، فأصبح المكان الذي حُدد لإقامته بدار نصر القشوري مكانًا فسيحًا رحبًا، مزودًا بكلِّ شيءٍ.
وغدا سجنه بدار السلطان مدرسةً ومنتدًى، يقول ابن كثير: "واستطاع الحلَّاج وهو بسجنه في دار السلطان أن يستغوي جماعةً من غلمان السلطان، وموَّه عليهم واستمالهم بضروبٍ من حيله، حتى صاروا يحمونه، ويدفعون عنه، ويرفهونه، ويدخلون عليه من شاء.".. بل لقد اتسعت حياة الحلَّاج رغم السجن وتحديد الإقامة، فأصبح يغشى مجلس الخليفة، يعظه وينذره، ويذهب نهارًا إلى جامع المنصور، يلقي دروسه، ويشرح منهجه، وفي الليل يواصل تهجده وتضرعه، في المكان الحبيب إلى قلبه، بين القبور، عند قبر الإمام أحمد بن حنبل.
ثم يعود بعد هذا كله إلى سجنه بدار السلطان حينًا، وإلى المقر الذي حُدد له بدار نصر القشوري أحيانًا، ليواصل مقابلاته واتصالاته بالوزراء والقادة والأمراء، يحدثهم ويجادلهم في فنون الحكم والسياسة، كما يتصل أيضًا ويقابل العلماء والصوفية والأدباء، يحدثهم ويعلمهم أسرار الحب، ومنازل القرب، ومقامات التصوف.
جاء في روضة المريدين لابن يزد إنيار: "سُئل الحلَّاج وهو في سجنه عن التصوف، فقال: طوامس وروامس اللاهوتية! فقال السائل: أفصحْ في هذا المعنى. فقال: لا عبارة عنه. فقلتُ: لمَ أظهرته؟ فقال: يعلمه من يعلمه، ويجهله من يجهله. فقلت: أسألك بالله إلا فهمتني، فأنشأ يقول: "لا تُعرِّض بنا فهذا بنانٌ.. قد خضبناه بدم العشَّاق". وسُئل عن الصوفي فقال: "من أشار إليه فهو متصوفٌ، ومن أشار عنه فهو صوفيٌّ".. وقال في مرةٍ أخرى عن الصوفي: "إنه وحداني الذات، لا يقبل أحدًا ولا يقبله أحدٌ".. وقال: "معنى الخلق العظيم، ألا يؤثر فيه جفاء الخلق بعد مطالعة الحق"، وقال: "إذا استوى الحق على سر عبدٍ، ملك الأسرار، فيعاينها ويخبر عنها".. وقال: "من أسكرته أنوار التوحيد حُجب عن عبادة التجريد".. وقال: "من خاف من شيءٍ سوى الله، أو رجا سواه، أغلق عليه أبواب كل شيءٍ، وسلط عليه المخافة، وحُجب بسبعين حجابًا، أيسرها الشك".. وقال: "لا يجوز لمن يرى غير الله أن يدعي أنه يعرفه".
كان للحلَّاج في سجنه عجائب، يقول محمد بن عفيف: "لما رجعت من مكة ودخلت بغداد، أردت أن ألقى الحسين بن منصور، وكان محبوسًا قد مُنع الناس عنه، فاستعنت معارفي وكلَّموا السجان، وأدخلني عليه، فدخلت السجن والسجان معي، فرأيت دارًا حسنةً، ورأيت في الدار مجلسًا حسنًا، وفرشًا حسنًا، وشابًّا قائمًا كالخادم، فقلت له: أين الشيخ؟ فقال: مشغولٌ بشغلٍ. فقلت: ما يفعل الشيخ إذا كان جالسًا ها هنا؟ قال: ترى هذا الباب، هو إلى حبس اللصوص والعيارين، يدخل عليهم ويعظهم فيتوبون. فقلت: من أين طعامه؟ فقال: تَحْضُرُه كلَّ يومٍ مائدةٌ عليها ألوان الطعام، فينظر إليها ساعةً، ثم ينقرها بإصبعه، فتُرفَع ولا يأكل، فإذا الحلَّاج قد خرج إلينا، فرأيته حسن الوجه، لطيف الهيئة، عليه الهيبة والوقار".
كال الوزير حامد الاتهامات للحلاج، وشعر القضاة رغم التعليمات الصادرة إليهم بعجزهم عن إصدار حكم الإدانة القاتل؛ وكادت القضية أن تُحدث انهيارًا في الحكم العباسي، وتحفز الحنابلة والصوفية والشيعة وأنصار الحلَّاج للتمرد والانقضاض على الخلافة العاجزة الممزقة.
وصدرت الأوامر حاسمةً من القصر، إلى حامد وإلى القضاة، وانتاب جوَّ المحكمة قلقٌ وتوترٌ، ولما تبين الحلَّاج الصورة قال: ظهري حَمِي، ودمي حرامٌ، وما يحل لكم أن تتأوَّلوا عليَّ، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وسعد وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة الجراح، ولي كتبٌ في السنة موجودةٌ في الوارقين، فالله الله في دمي!.. ولم يلتفت الخليفة ومن معه لذلك.
أدرك الحلَّاج أن المؤامرة قد بلغت نهايتها، وأنه في طريقه إلى الاستشهاد، الاستشهاد الذي طالما حنَّ إليه وتنبَّأ به، كما أدرك الهدف من هذا الحشد من الاتهامات الدينية، التي تصوره دجالًا مشعوذًا تارةً، وملحدًا مارقًا تارةً أخرى، إنها تستهدف أول ما تستهدف أن تزلزل في قلوب الجماهير تلك القدسية الدينية التي تنطوي عليها قلوبهم للحلاج، وأن تُظهر الخلافة وأنصارها بمظهر الدفاع عن العقيدة الإسلامية وحمايتها.
الشهادة ثمن الحب
لم يجزع الحلَّاج ولم يضطرب، وطلب الحلَّاج مقابلة الخليفة، وطالبه بإصلاح الأداة الحكومية؛ ثم قال: "من أطاع الله أطاعه كل شيءٍ، ثم حاكمٌ ومحكومٌ عليه، وواسطةٌ هي السبب في إيصال الحكم بالمحكوم عليه، فإن كان ثَمَّ جورٌ أو عدلٌ نُسب إلى الواسطة في الظاهر، والرب يتحاشى عن أن يوصف بذلك.. وإنما أنت واسطةٌ، تنفذ أحكام الرب ومشيئته، فيمن يشاء من عباده، بما شاء، كما شاء...".
ورد عن ابنه أحمد: "فلما كانت الليلة التي أُخرج في صبيحتها والدي من الحبس -للقتل - قام فصلى ركعتين، فلما فرغ من صلاته لم يزل يقول: مكرٌ، مكرٌ، إلى أن مضى من الليل أكثره، ثم سكت طويلًا، ثم قال: حقٌّ، حقٌّ، ثم قام قائمًا وتغطى بإزارٍ، وائتزر بمئزرٍ، ومد يديه نحو القبلة، وأخذ في المناجاة.
وكان خادمه أحمد بن فاتك حاضرًا، فحفظنا بعضها، فكان من مناجاته: "نحن بشواهدك نلوذ، وبسنا عزتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك ومشيئتك، وأنت الذي في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ".
ثم أنشأ يقول: "أَنْعى إليك نفوسًا طاح شاهدُها.. فيما وراء الحيثِ أو في شاهد القِدَم، أَنْعى إليك قلوبًا طال ما هطلت.. سحائب الوحي فيها أبْحُر الحكم، أَنْعى إليك لسان الحق مذ زمنٍ.. أودى وتذكاره في الوهم كالعدم".
وورد عن الرزاز قوله: "كان أخي خادمًا للحسين بن منصور، فسمعته يقول: لما كانت الليلة التي وعد من الغد بقتله، قلت: يا سيدي أوصني، فقال لي: عليك بنفسك، إن لم تشغلها شغلتك.. ثم أنشأ يقول: "عجبت منك ومني.. يا منية المتمني، أدنيتني منك حتى.. ظننت أنك أني، وغبت في الوجد حتى.. أفنيتني بك عني".
ويقول القاضي أبو العلاء الواسطي: "لما جيء بالحسين بن منصور الحلَّاج ليقتل، أخذ يتبختر في قيده، وهو ينشد: طلبت المستقَر بكل أرضٍ .. فلم أرَ لي بأرضٍ مستقرًا، فنلت من الزمان ونال مني.. وكان مناله حلوًا ومرًّا".