محمد أبو الغيط.. مر من هنا
الأربعاء، 07 ديسمبر 2022 02:29 م
في أدبيات المصريين الشعبية، حين تجتمع الخصال الحميدة في شخص يطلق عليه "أبن موت"، وكأن الدنيا لا تتحمل هؤلاء الذين تسموا أخلاقهم فوق ما يعرفه البشر في الحياة الدنيا، وكأن تلك الصفات خلقت لكي تكون ومضة في حياتنا تنتهي سريعاً، كان من هؤلاء الذين ينطبق عليهم هذا الوصف "ابن موت" الصديقي الغالي والعزيز والصحفي النابه ذائع الصيت "محمد ابو الغيط".
عرفته صغير السن كبير المقام بين أقرانه بشوشاً دائماً، باحثاً عن ما يسعد من حوله ولو على حساب راحته، طاقته الايجابية التي ينشرها على من حوله لا تنضب، صاحب قلم جريئ وثقيل بشكل مبهر، يحصد الجوائز بالسهولة التي يبتسم بها لمن يختلف معه قبل المتفق، لطيف المعشر ودوداً، كريم مضياف.. خصائل لا تجتمع بسهولة في شخص واحد لكنها اجتمعت في شخص محمد ابو الغيط.
قابلته بعد سنوات من سفرة في العاصمة البريطانية لندن، بادر بالاتصال وجاء مع السيدة زوجتة حيث مقر اقامتي، كانت تلك المرة الوحيدة التي زرت فيها لندن ضيفاً على التلفزيون العربي حيث يعمل، جاء مرحباً كصديق يؤنس وحدة هذا الذي جاء وحيداً لمدينة غريبة، استمرت اللقاءات بشكل يومي تقريباً، شاركني فيها اهتمامي بزيارة المتاحف والأماكن التاريخية، متبرعاً بوقته لا لشيئ الا لإدخال السرور على ضيفه، ثم حين قررت البقاء بعد انتهاء الاستضافة لأيام اتعرف فيها على المزيد من معالم الدولة التي سادت العالم يوماً، كان هو صاحب النصيحة في اختيار مكان الاقامة المناسب، وهو المشير على اي الطرق افضل للبحث، كنت من أوائل قراء مقالاته، ومن المعجبين بكل ما يسطر، متفقاً معه في معظم أفكاره وأراها تمثلني، كان رحمه الله يجيد فن التعبير عن ما يدور في خلده بدون انفعال أو ابتذال بحكمة رجل عاش مائة سنة أو تزيد.
سئ الحظ جيلنا أن فقد رجل كان يمكن أن يكون أحد العلامات المهمة في تاريخ المصريين، صاحب فكر ورؤية عميقة، وبوصلة لا تخطئ طريقها، منحازاً للفقراء ولطريق الحق والعدل والخير، اذا اختلفت معه لا تخشي فُجر الخصومة، ولا تنتظر الا اخلاق الفرسان.
جاءت صاعقة المرض مفاجأة مزلزلة، حين اخبرني الخبر احسست أن الأرض تدور من تحتي ومن فوقي، كان كمن يحاول تمهيد الخبر وصياغته بشكل أحسست فيه أننى المريض وهو الطبيب الحريص على مشاعر مريضة، قوياً كنت يا صديقي شجاعاً كما عهدتك، كان يعرف طبيعة مرضه وخطورته بحكم أنه في الأصل طبيباً ترك الطب من أجل التفوق في بلاط صاحبة الجلالة.
حين أعلن خبر مرضه كان قد قرر أن يعطينا درساً كيف يمكن للإنسان أن يقاوم أشد الأمراض فتكاً ويصارع اقوي أنواع الألم وهو متوقد الذهن، وكأن عقلة من نوع خاص مختلف لا يعرف الهزيمة ولا يتوقف عن التفكير مهما كانت الآلام أو العقبات.
حصد ابو الغيط جوائز تفوق سنوات عمره القصير "34"، وتم تكريمه من الأمم المتحدة بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، لكنه لم يفرح بجائزة كما فرح بجائزة هيكل للصحافة العربية، وعبر عن هذا بقوله إنها فرح بها أولاً لأنها جائزة مصرية، وثانياً لانها مرتبطة باسم الأستاذ هيكل، كان تكريمه الأخير في ختام منتدي مصر للإعلام من قلب وطنه الذي لم يتوقف يوماً عن عشقة، ولكن عند موته دفن بعيداً عنه.
لا كلمات تنعي مثل هذا الشاب عظيم المقام، ولا شيء يعوض فقدانه ولا مواساة تستطيع تخفيف ألم الفقد.. يا صديقي الطيب مررت علينا طيفاً هادياً ورحلت عنا تاركاً لنا كلمات نعلمها لأبنائنا، نتفاخر عليهم اننا كنا يوماً رفاق دربك.
"لو تحققت نجاتي بمعجزة ما، سأسعى نحو ذلك الضوء الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنح ما أستطيع عرفانا لكوني محظوظا بزوجة مضيئة، وبأبٍ وأمٍّ مضيئيْن، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئنني نورهم لحقيقة الخير في الدنيا. ولو وافاني القدر بالوقت الذي قدره الأطباء، أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورا وهدوءا، وأن يمرَّ عبر هذا الكتاب بعض الضوء إلى من يقرأ”.. تلك كانت آخر كلماتك.. تشع نوراً وحباً وعطفاً كما كنت في حياتك.
يا صديقي الطيب سأعلم أبنائي وأحفادي إذا امتد بي العمر أن محمد أبو الغيط مر من هنا.. يا صديقي الطيب اتمني أن أكون أهلاً للقياك في دار الحق حيث تستحق الضوء الذي ينتظرك في جنة الخلد.
الي روحك السلام والرحمة من الله عز وجل، وإلي أجسادنا المتعبة الصبر على فراقك.