متى سنرى الأعمال الكاملة لوديع فلسطين؟
السبت، 12 نوفمبر 2022 05:37 م
شهد الأسبوع الماضي رحيل الأستاذ المؤسس وديع فلسطين "ولد في أخميم صعيد مصر 1923، وتوفى بالقاهرة 2022". رحيله ذكرني بكلمة قديمة كتبتها عنه، قلت في مطلعها: "من عجائب الأقدار فى بلد قدري بطبعه مثل بلدنا مصر، أن أحدهم يقدم نور عينيه للبلد، فلا يحصد إلا التجاهل والإنكار، بل الجفوة الغامضة التى لا تقوم على سبب من علم أو منطق، ثم تأتى ريح غامضة أيضًا فتدفع باسم هذا الذى تنكر له قومه إلى مصاف النجوم!
وهذا ما كان من أمر الكاتب الكبير الأستاذ وديع فلسطين غارس الأشجار وراعى الورد الذى بقرار غامض فرضوا عليه الظل المعتم فرضًا".
ولد الأستاذ وديع فى العام 1923 فى مركز أخميم بمحافظة سوهاج لأسرة مصرية مسيحية "الرجل ليس شاميا كما يشيع البعض عن جهل أو كذب متعمد" بعد مراحل التعليم المعتادة، حصل على بكالوريوس الصحافة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
شهدت حياته الشخصية مفارقات عجيبة، فقد ولد لأسرة كبيرة العدد، فله عشرة أشقاء، رحلوا جميعًا، وكان من أبرزهم شقيقه المثَّال لويس فلسطين الذى عاش مغتربا فى إسبانيا حتى وفاته عام 1992.
وعندما تزوج الأستاذ وديع لم ينجب سوى ولدين، ابن هو باسل فلسطين وهو مهاجر منذ سنوات، حيث يعمل فى التليفزيون الكندي، وابنة هي الدكتورة ابنته هناء متخصصة فى علـم النفس، وقد وهبته الدكتورة هناء أربعة أحفاد، ولكن برحيل السيدة زوجته ثم برحيل معظم أبناء جيله ورفاق دربه عاش الأستاذ وديع بين جدران بيته وحيدًا أو كالوحيد.
هذا كان عن حياته الشخصية، أما العملية فهو رجل صاحب موهبة متفجرة جعلت قلمه يتألق على صفحات صحيفتي "المقتطف" و"المقطم" وكانت تلك الفترة الممتدة من العام 1945 إلى العام 1952 من أزهى مراحله الصحفية، فقد تولى رئاسة القسم الخارجي بالمقطم، وكان يتولى كتابة افتتاحية الجريدة، ثم مع ثورة يوليو جرى إغلاق الجريدة، ولكن الأستاذ وديع كان قد عرف طريقه لتأليف الكتب.
يقول موقع "المعرفة": كتب وديع وترجم أكثر من أربعين كتابا فى الأدب والاقتصاد والسياسة وعلوم الصحافة التى قام بتدريسها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة على مدى عشر سنوات بين عامي 1948 و1957. ولعل أهم كتبه الأدبية الكتاب الصادر عام 2003 والمعنون "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره"، وهو فى جزئين، سجل فيهما علاقاته بنحو مئة من الأعلام فى مصر والبلاد العربية وبلاد المهجر.
وشارك فى إخراج عدد من الموسوعات منها الموسوعة العربية الميسرة، و"موسوعة الأقباط" باللغة الإنجليزية الصادرة فى ثمانية أجزاء عن جامعة يوتاه فى الولايات المتحدة الأمريكية، و"موسوعة أعلام مصر والعالم"، و"موسوعة من تراث القبط".
كان وديع فلسطين كبير المترجمين أمام محكمة دولية خلال بتّها فى خلاف نفطي كانت أرامكو طرفا فيه، وقد لاحظ المسئولون فى الشركة كفاءة هذا المترجم، وفور انتهاء عملية التحكيم، عرضوا عليه العمل مديرا للعلاقات العامة فى مكتب الشركة فى القاهرة، فوافق على الفور، وكان ذلك فى عام 1956، ليبدأ مشواره مع مجلة "القافلة" ابنة الثلاث سنوات آنذاك.
لعب وديع فلسطين دورا مهما فى تطوير القافلة خلال سنوات قليلة من نشرة توعوية وتوجيهية، كما كانت فى أعدادها الأولى، إلى منبر لمع فى عالم الثقافة على امتداد الوطن العربى بأسره، فبحكم موقعه فى القاهرة، عهدت إليه إدارة المجلة استكتاب كبار الأدباء والكتّاب المصريين. وبالفعل راح فلسطين يستكتب أشهر الأسماء فى عالم الأدب والثقافة، لم يكن عبّاس محمود العقاد إلا واحدا منها، فكان المبلغ الذى يتقاضاه العقاد نظير المقال الواحد 50 جنيها مصريا، وهو مبلغ كبير بمقاييس الخمسينيات من القرن الماضى.
وشارك وديع فلسطين فى عدد كبير من الهيئات والجمعيات الأدبية، فأنشأ مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجى "رابطة الأدباء" وتوالى انتخابه نائبا لرئيسها حتى توقفها عام 1952، وكان عضوا مؤسسا فى رابطة "الأدب الحديث"، وهو عضو فى اتحاد الكتّاب المصريين منذ عام 1981، وعضو فى نقابة الصحفيين المصريين منذ عام 1951، وعضو لجنة تنسيق الترجمات التابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الملحقة فى الجامعة العربية، بالإضافة إلى عضويته فى الهيئة الاستشارية لمجلة "الضاد" فى حلب.
وينهى الموقع تقريره الممتاز عن الأستاذ وديع بالتأكيد على أنه قد جرى انتخابه عضوا فى مجمعى اللغة العربية فى كل من سوريا 1986 والأردن 1988.
يبقى سؤالان، الأول عن مكتبة الأستاذ وديع.
الإجابة قدمتها الأديبة العراقية الأستاذة إنعام كجي جه التي صنعت فيلمًا عن قصة مكتبة الأستاذ وديع فلسطين وجاء في مقدمته: "لكي لا تتبدد مكتبته ومراسلاته الثمينة مع كبار أدباء العربية في القرن العشرين، ارتأى وديع فلسطين، الصحافي والمترجم المصري الذي تجاوز التسعين، أن يهديها إلى تلميذته السابقة في الجامعة الأميركية في القاهرة، الباحثة اللبنانية سلمى مرشاق سليم. كيف بدأت صداقة العم وديع والسيدة سلمى التي استمرت لأكثر من ٦٠ عاماً؟
إنعام كجه جي تابعت في هذا الفيلم حكاية انتقال هذه المكتبة النادرة في عشرات الصناديق من حي مصر الجديدة في القاهرة إلى ضاحية بيروت الجنوبية. لكنها ليست قصة كتب فحسب".
إذًا المكتبة الثرية غاية الثراء غادرت ولن تعود.
السؤال الثاني عن مؤلفاته التي حرمت منها أجيال، فالكثرة الغالبة منها ليست موجودة في المكتبات المصرية، فمنها ما نفد ومنها ما لم يطبع في مصر أصلًا، فهل تتكرم علينا دار نشر رسمية وتتولى إعادة طبع الأعمال الكاملة للأستاذ الذي لم يبخل على المكتبة العربية بشيء وأمضى حياته كلها خادمًا في محرابها.
رحمه الله، وجعل نداءنا يصل لمسئولين نعرف غيرتهم على تراث العظماء من أبناء الوطن.