قصة وعبرة
الإثنين، 03 أكتوبر 2022 06:01 م
التحقت إحدى صديقاتي العام الماضي للعمل بتدريس اللغة الفرنسية في إحدى مدارس اللغات الخاصة المتميزة، وفي أول أيام العام الدراسي عندما دخلت فصل الصف الثالث الابتدائي وبدأت في التعرف على التلاميذ وسؤال كل منهم عن اسمه وعمره، أجاب طالب ثم آخر وأخبرها باسمه الثلاثي وسنه وأشار إلى من سبقه في الإجابة قائلا وهذا أخي، فسألته هل أنتم توأم؟.. فأجاب بـ"لا"، ثم استدركت أن اسم العائلة مختلف، فحاولت الاستيضاح بسؤاله إذا كان يريد أن يمزح معها، فأقسم بأنه أخيه، حاولت فهم الأمر ولم تجد إجابة وافية، فانتقلت إلى طالب آخر بعد أن تصورت أنهما ربما يكونا إبنين لزوجة وزوج قد سبق لهما الزواج والإنجاب من آخرين قبل أن يتزوجا، ولم ترغب في إحراج الطفلين وانتهى الأمر عند هذا الحد .
في اليوم التالي أخبرها مدير المدرسة أن مالك المدرسة رحمه الله كان يتكفل بعدد من أطفال دور الرعاية، وأنه ألحقهم بالمدرسة كي يتلقوا تعليما مميزا يساعدهم في بناء مستقبل أفضل، وذكر لها اسمي الطالبين الموجودين في فصلها، فتداركت الأمر فورا واستوعبت سر إجابة الطفل بأن له أخاً في الفصل، فأطفال دور الرعاية الواحدة يعتبرون أنفسهم أخوة.
ثم استكمل مدير المدرسة حديثه وأخبرها أن أبناء مالك المدرسة ساروا على درب أبيهم بعد وفاته وأبقوا على الأطفال الملتحقين بسنوات دراسية مختلفة، ثم نصحها بأن تتعامل معهم بشكل طبيعي كباقي الطلبة كي لا يشعروا بأنهم مختلفون.
ثم شرحت لي صديقتي الشعور الذي ملأها والسعادة التي انتابتها من جراء ما سمعت، وفي غرفة المعلمات تحدثت مع زميلتها التي تعمل منذ سنوات في المدرسة والتي أخبرتها أنهم أيضا يخصصون أوتوبيسا خاصا بالدار لنقل الطلاب، كما أنهم يخصصون بعض الأيام لاصطحاب أطفال الدار لمطاعم وأماكن تنزه كالتي يرتادها زملاءهم حتى لا يشعرون بالغربة والاختلاف فيما بينهم، بالإضافة لاصطحابهم في جميع رحلات المدرسة والاهتمام بهم في جميع النواحي بأسلوب تربوي لا يمس كرامتهم .
لا أخفيكم سرا بتأثير تلك القصة على مشاعري، فكانت خليط من السعادة والتدبر في معانيها والعبر والدروس المستفادة منها .
بداية كنت أردد بداخل نفسي جملة سبحان الله الذي رزق هؤلاء الأيتام أو اللقطاء بمن يهتم بهم بهذا الشكل الذي ربما يفوق الاهتمام والمستوى الذي كانوا سيعيشون فيه لو أن لهم أسراً حقيقية، وسبحان من دبر أمرهم ورحمهم وألان لهم القلوب، وأيقنت بشكل أكبر رغم يقيني بالطبع أن رحمة الله سبقت كل شيء وأن الله أكبر من أي أزمة أو مشكلة نعتبرها كارثة لا حل لها، فمن كان قوة هؤلاء الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة قادر بقوته وحوله أن يدبر أمورنا جميعا.
ثم بدأت في الترحم على ذلك الإنسان الرحيم الذي ترك وراءه أجمل الأثر، فما فعله قد غَيَّر وسيغير مسار حياة بشر للأفضل فما أجملها صدقة جارية سيجني حسناتها كلما استفاد هؤلاء الأطفال مما قدمه لهم سواء في طفولتهم أو عندما يكبرون ويلتحقون بوظائف أفضل لارتفاع مستواهم التعليمي، وحين يتزوجون وينحبون أطفالا لآباء متعلمين وفي مستوى معيشي جيد .
كما أنني تعلمت ضرورة غرس حب الخير في الأبناء وإنباتهم نباتاً حسناً يجعلهم يسيرون في نفس طريق الخير الذي بدأه والدهم، فهم لم يتنصلوا من دورهم تجاه هؤلاء أو يبخلوا بل على العكس أكملوا المسيرة على خير وجه.
إن الدروس المستفادة من تلك القصة كثيرة، لكن هناك درسا خفيا ربما لم يلحظه البعض أود أن أشير إليه وأتمنى أن يدركه الجميع، أن ليس كل ثري أو رجل أعمال هو شخص فاسد أو سارق كما يتصور البعض، فهؤلاء الخيرين يركبون سيارات فارهة ويسكنون في منازل متميزة بفضل الله الذي رزقهم بحلاله، وهم بدورهم يحسنون في الخفاء دون إعلان ولا تباهي، وما قصته علي صديقتي هو ما نعلمه عنهم فقط، والله يعلم ما هو أكثر عن الخير الذي يقدمونه هم أو غيرهم من الأغنياء، فلولا رزق الله الوفير للبعض ما استفاد غير القادرين، وما استطاع هؤلاء تقديم يد العون للمحتاجين، ومن هنا أود أن يعلم من يشعرون بغصة وغل في قلوبهم تجاه من هم أقدر منهم مادياً أن الأرزاق بيد الله، وأن الله خلق عباده طبقات، وأن الفكر المنتشر بضرورة مساواة الجميع ماديا هي فكرة تخالف طبيعة خلق الله للبشر، والدليل أن الله فرض زكاة المال يمنحها القادر لغير القادر وهو إقرار من الله سبحانه وتعالى أن البشر ليسوا متساويين، كما أمرنا الله بالرضا بأمره ورزقه ووعدنا بقوله "وإن شكرتم لأزيدنكم"، فمن أراد الزيادة فليبدأ بالشكر حتى ولو على القليل فالرضا لمن يرضى.
أتمنى أن نسير جميعا على نهج تلك الأسرة كلُ بقدر استطاعته، وأن تعم فكرة تمنى الخير للجميع والدعاء بالبركة لأصحاب النعم ونبذ الحقد الطبقي والحسد الذي نهانا الله عنه.
حقا إنها قصة إنسانية جميلة وراقية رحم الله صاحبها وغفر له وجعل ما قدمه في ميزان حسناته وجعلنا جميعا من الراحمين .