بناء الإنسان يبدأ بتطوير ثقافة التعليم وليس تغيير المناهج فقط
السبت، 16 يوليو 2022 10:30 م
سوق العمل يتحكم في تحديد خيارات التعليم.. الكليات التكنولوجية والذكاء الاصطناعى يوجهان ضربة قوية لكليات القمة
وعد رئاسى: الدولة مستعدة لتحمل نفقات 100 ألف دارس تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وأنفاق 12 مليار جنيه لتأهيلهم
نحتاج تغيير ثقافة التعليم وليس المناهج، هذه هي الحقيقة التي نهرب منها جميعاً، ونفضل أن نركز فقط على ترديد بعض الشعارات التي لم تتغير بمرور السنوات والزمن، من نوعية إن المناهج التعليمية لا تساعد على خلق جيل فاهم وواعى، او أن نظام التعليم في مصر قائم على الحفظ وليس الفهم، وهو السبب فيما نحن فيه اليوم، ولم يلتفت أحد لحقيقة إن مناهجنا التعليمية قد تكون أحد أسباب أزمة التعليم، لكنها ليس تكل الأزمة.
الأزمة او المشكلة لها أشكال وأسباب متعددة ومختلفة، لكن تبقى الأسرة هي المحور الرئيسى.
أعلم إن الجملة السابقة قد تكون صادمة لكثيرين، لكنها من وجهة نظرى الحقيقة التي نتغافلها عن عمد، حتى نبعد عن أنفسنا أي تهمة، ونبحث كما هي عادتنا عن شماعة نعلق عليها أي فشل.
ولكى أكون دقيقا في الحديث، أبدأ باستعارة جزء مما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى الأربعاء قبل الماضى، خلال افتتاح عدد من مشروعات مصر الرقمية لوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حينما دعا إلى تغيير ثقافة التعليم في مصر بحيث لا يصبح الهدف هو حصول الطالب على شهادة جامعية وإنما التوجه نحو التخصصات الجديدة التي يحتاجها سوق العمل، وتأكيده أنه تم وسيتم افتتاح عدد كبير من الكليات والجامعات التي توفر التخصصات التكنولوجية الجديدة التي يحتاجها سوق العمل مثل الذكاء الاصطناعي.
وضرب الرئيس السيسى مثالا نعيشه جميعاً، والمتمثل في اهتمام الأسر بحصول أبنائها على الدروس من أجل النجاح والتفوق، وهو امر يعكس وعي المجتمع المصري بأهمية التعليم ولكن يتبقى الاهتمام بما هو مستهدف من التعليم وعدم الاكتفاء بالحصول على الشهادة ولكن الاهتمام بنوعية الشهادة والتعليم، لافتاً إلى أن الكليات الحديثة التي تم إنشاؤها توفر التعليم والمستقبل الحقيقي "وربما نكون مقصرين في الإعلان عن وتسويق هذه التخصصات الجديدة التي يحتاجها المجتمع"، مشدداً على أنه "ليس أمامنا سوى العمل بشكل مختلف وإيجاد الأفكار وتطويرها لتعظيم العائد والدخل والثروات سواء للمواطن أو للوطن بعيدا عن الأساليب التقليدية التي أصبحت غير كافية"، مشيرا إلى أن بعض الدول الصغيرة من حيث تعداد السكان استطاعت أن تحقق ناتجا قوميا إجماليا مرتفعا بفضل الابتكار والتطوير.
وللتدليل بشكل قوى على أهمية التعليم في مصر، وخاصة التعليم التكنولوجى، قال الرئيس السيسي إن ثروات مصر محدودة باستثناء القليل من الغاز والبترول حتى لا يتوهم أحد أن الدولة المصرية لديها ثروات كبيرة، مضيفا أنه "التقى أحد شيوخ البحث والتنقيب في مصر وسأله عن خريطة مواردنا وثرواتنا المعدنية؛ فأجاب بأن لدى مصر ثلاثة أنواع فقط هي الرمل والرخام والحجر الجيري"، موضحا أن الثروة بمعناها الحقيقي الهائل لا توجد لدينا باستثناء الغاز والبترول"، وأكد الرئيس أنه "ليس أمامنا في مصر إلا العمل والبحث عن الأفكار وتطويرها والعمل عليها حتى نغير من حياة المواطنين ونعظم دخولهم"، مشيرا إلى أنه "إذا كنا سنسير في المسارات التقليدية ستصبح النتيجة غير كافية، لأن لدينا عدد سكان كبير، وهناك مطالبات بتحسين الدخول، ولذلك أحلم بتحسين الدخول، مشيرا إلى إمكانية ارتفاع دخل الفرد في حال اكتساب مهارات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. وهنا أوضح وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الدكتور عمرو طلعت عن أصحاب هذه التخصصات أنهم يحققون دخلا يتراوح ما بين 15 إلى 20 ألف جنيه شهريا في بداية التخرج وأنه من الممكن أن يصل من 5 إلى 10 آلاف دولار شهريا.
وأكد الرئيس السيسى أن الدولة المصرية تعمل حاليًا من أجل التحول للأداء الرقمي ثم تعتمد على الذكاء الاصطناعي، من أجل تحويل الدولة إلى جمهورية جديدة وبالتالي فإن التكلفة ستكون بأرقام كبيرة جدًا، مشيرا إلى استعداد الدولة لتحمل نفقات 100 ألف دارس لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في حال توافر لديهم المقومات لذلك، ولفت الرئيس السيسي إلى أهمية مشروعات "مصر الرقمية" لمستقبل مصر وأولادها، وضرورة طرح هذا الموضوع لكي يدرك الناس ما تقوم به الدولة، وقال: لو تواجد 100 ألف دارس توافرت فيهم المقومات المطلوبة فان الدولة مستعدة لصرف ما بين 10 إلى 12 مليار جنيه من أجل تأهيلهم على أعلى مستوي.
وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن بناء الدولة هو طريق يحتاج إلى الصبر والتضحيات والعمل الجاد المتسارع.
هنا انتهى الاقتباس، والحقيقة إن الرئيس لمس القضية الأهم في حياتنا حالياً، وهى ثقافة التعليم، وهو مصطلح قد يراه بعضننا جديد، واخرون يعتبرونه به تزيد كونه يضيف أعباء جديدة على العملية التعليمية، نحن في غنى عنها، كما أنه سيشتت انتباهنا عن الهدف الاساسى، وهو تطوير التعليم.
وربما فات كل هؤلاء إن كل الاتجاهات الدولية سواء المعاصرة أو التجارب التي خاضتها دول قريبة منا جغرافياً، أو أخرى بعيدة عنا، وكانت في وقت سابق تعانى أزمات اقتصادية واجتماعية، لكنها توصلت إلى قناعة بأن المطلوب للتغيير والانطلاق هو تغيير ثقافة التعليم، وليس فقط المناهج، فقد توصلت هذه الدول إلى القناعة الراسخة بأن قضية تطوير التعليم تستدعى وبالضرورة إحداث تغيير فى العديد من المفاهيم والأفكار والقيم والسلوكيات، والاتجاهات والتوجهات، وغيرها من العناصر التى تشكل ثقافة المؤسسة التعليمية، وهو ما يؤكد أن ثقافة التعليم وتغييرها، هي أهم شرط لحدوث التطوير، والحقيقة أنها شرط ليس فقط فى التعليم، وإنما فى كل مجالات الحياة حولنا.
والثقافة هنا مرتبطة بالموروثات الفكرية، التي طبعت في عقول الأسر إن هناك هدف واحد يجب أن يسعوا إليه، وهو ان يلتحق أبنائهم بأحد كليات القمة، اخذا في الاعتبار أن هذه النوعية من الكليات اختلفت باختلاف الزمان، فقبل سنوات كانت كلية الحقوق من كليات القمة، لكن تبدل الحال، وأصبحت القمة حكراً أسرياً على كليات "الطب والصيدلة وطب الاسنان"، وبعد هذه الكليات تأتى كليات الدرجة الثانية وفق المفهوم الأسرى الموروث، الذى لم يفكر مطلقاً في مستقبل الأبناء الا من هذه الناحية، ولم ينظر مطلقاً لفكرة الربط بين التعليم وحاجة سوق العمل، او على الأقل رغبة الأبن او الابنة نفسها، لإن الموروث يفرض على الاسر وبالتالي أبناءهم وبناتهم اختيارات معروفة سلفاً.
هذه هي الثقافة أو الموروثات التي نردي تغييرها إذا كنا بالفعل نبحث عن مستقبل أفضل وآمن لابناءنا، فمن خلال نظرة سريعة على دول العالم، واحتياجات سوق العمل، سيجد وجود تغيير كبير في آليات السوق واحتياجاته، نعم الطبيب مطلوب وكذلك الصيدلى وقبلهم المدرس وغيرها من المهن المهمة لبناء أي مجتمع، لكن هناك نوع اخر من الوظائف بدأ يزحف بقوة، ويطغى على سوق العمل، واقصد به الوظائف المرتبطة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، التي أصبحت تتدخل في كل مناحى الحياة، وهو الامر الذى انتبهت له الدولة منذ سنوات، حينما نبه الرئيس السيسى إلى ضرورة الاهتمام بهذا النوع من التعليم التكنولوجى، وما يتفرع عنه من تخصصات باتت مطلوبة في سوق العمل وبقوة، وبالفعل بدأت الدولة في إنشاء مدارس تكنولوجيا تطبيقية، وجامعات متخصصة في التكنولوجيا، لها شراكات مع جامعات دولية لها أسمها في المجال، وزاد على ذلك إطلاق مبادرات حكومية تستهدف تنمية مهارات الشباب، سواء في مرحلة التعليم الجامعى، او حتى خريجى الجامعات.
ومن تابع الجلسة الحوارية للشباب المشارك في المبادرات والمستفيد من المنح الخاصة بوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الأسبوع الماضى، سيضع يديه على السبب الذى دعا الرئيس السيسى ليقول ما قاله بشأن تغيير ثقافة التعليم، فالمنصة التي تواجد عليها 12 من الشباب المشارك في المبادرات والمستفيد من منح وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، الذين تحدثوا عن حرصهم على الحصول على دورات تدريبية ومنح دراسية من خلال وزارة الاتصالات، تهدف الى تنمية المهارات وترسيخ ثقافة التحول الرقمي والعمل الحر وريادة الأعمال وسد الفجوة بين الدراسة الأكاديمية ومتطلبات سوق العمل.
والاهم ما سمعناه من الشباب، تحديداً أبانوب فوزي، الطالب في مدرسة we التكنولوجية التطبيقية، فقد قال أنه عقب حصوله على الصف الثالث الإعداي بمجموع 6ر93% رفض الالتحاق بالصف الأول الثانوي لرغبته الشديدة في دخول مدارس التكنولوجيا التطبيقية، ورغم رفض اسرته لكنه التحق بأحدها، وهو نفس الموقف الذى تعرضت له شهد محمد، الطالبة في جامعة مصر المعلوماتية، التي قالت أن والدها كان يرغب منذ صغرها أن تدخل مجال الطب أسوة به، لكنها قررت تغيير رغبة والدها ودخلت قسم تصميم الألعاب الذي لم يكن موجودا في أي جامعة بمصر إلا في جامعة مصر المعلوماتية، مؤكدة إصرارها على تحقيق المزيد من التفوق في هذا المجال لحبها الشديد له، مشددة على ضرورة مواكبة العصر مع اتجاه العالم إلى السوق الرقمي.
أبانوب وشهد، نموذج لكثير من الطلاب الذين يرغبون في اختيار مستقبلهم بأنفسهم، لكنهم يواجهون برفض أسري منبعه الاساسى الثقافة القديمة التي لا تعترف بفكرة ربط التعليم بسوق العمل، أو لا ترى ان التكنولوجيا مجال للتعليم.
هذا هو ما نتحدث عنه، الحاجة لتغيير ثقافة التعليم، فليس المهم أن يلتحق أبنائنا بكلي قمة، على سبيل الوجاهة الاجتماعية، فهناك كليات وفرص تعليمية لها ايضاً مستقبل، ولا ننسى أن دولا متقدمة الأن بدأت بالاهتمام بالتعليم التكنولوجى والتعليم الفني، إلى أن وصلت إلى ما وصلت اليه اليوم، وهو ما نتطلع جميعاً أن نصل إليه.
وهنا يجب الإشارة إلى استراتيجية بناء الإنسان المصري التى تتناول في جزء منها ثقل وتكثيف المهارات التقنية المطلوبة في سوق العمل، ورعاية الفكر الابتكاري والأداء الخلاق وريادة الأعمال للشباب المبدع، وخلق جيل جديد قادر على أن ينفذ مشروعات التحول الرقمي سواء التي تجرى داخل مصر أو خارجها، وخير شاهد على هذه الاستراتيجية مدارس التكنولوجيا التطبيقية التي تستهدف تغيير الصورة النمطية للتقني في مصر، وإنتاج جيل جديد من التقنيين يتلقون تعليما في المرحلة الثانوية في معامل على أعلى مستوى تقني ويتم تدريبهم في شركات الاتصالات العاملة، ويستكمل ذلك بإنشاء جامعة مصر للمعلوماتية، وهي أول جامعة متخصصة في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في القارة الإفريقية، تمنح درجتي البكالوريوس والماجستير بالتعاون مع جامعتين من أرقى الجامعات الأمريكية في هندسة الحاسبات وعلومها وهما جامعتا توردو ومينيسوتا، وهذه الجامعة أنشئت العام الماضي بالتعاون مع وزارة التعليم العالي وفتحت أبوابها العام الدراسي 2021 - 2022، فهذا هو المستقبل الذى تبحث الدولة عنه.
المستقبل الذى تتحدث عنه الأرقام، وتقول إن الصادرات الرقمية المصرية نمت من 3.6 مليار دولار في العام المالي 2018 - 2019 إلى 4.9 مليار دولار في العام الماضي 2021 - 2022، كما أن نسب نمو القطاع تتراوح بين 15 و17% كل عام.
هذا هو المستقبل الذى تبحث عنه الدولة لأبنائنا، لكنها تحتاج من الاسر المصرية أن تكون شريكة في صنع هذا المستقبل، ولكى يتحقق ذلك عليها إن تتنازل عن المفاهيم القديمة المرتبطة بالتعليم، وترضى بإن التطور هو سنة الحياة، وإن سوق العمل أصبح الحاكم الرئيسى في تحديد خياراتنا.