أحمد بن طولون.. أول مؤسس لدولة عربية مستقلة.. بنى عاصمة جديدة لمصر وشيد مسجدًا على الطراز السامرائى

الأحد، 10 يوليو 2022 09:00 م
أحمد بن طولون.. أول مؤسس لدولة عربية مستقلة.. بنى عاصمة جديدة لمصر وشيد مسجدًا على الطراز السامرائى

يعد أحمد بن طولون من الشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر الإسلامية، فقد حكمت مصر بفضله عدة شخصيات طولونية، حفر التاريخ اسمه كمؤسس لأول دولة عربية إسلامية مستقلة في مصر الإسلامية العربية، حيث أن الدولة الطولونية ظهرت في الفترة الأولى من العصر العباسي الثاني، وتعد أول تجربة حكم محلي لأسرة أو دولة مستقلة عن الدولة العباسية المركزية.
 
قام ابن طولون بعدة أعمال في فترة حكمه، منها إنشاء مدينة القطائع، والتي اتخذها عاصمة لدولته، وكذلك بنى مسجده المعروف بمسجد أحمد بن طولون، وكان معروفا بالتدين وحسن الخلق ومجالسته العلماء، حيث كان منذ صغره متصفاً بالرزانة والولاء وحفظ القرآن والتفقه في الدين، وكان والده من أتراك القفجاق.

مواليد العراق من أصول مغولية
 
ولد أحمد بن طولون بسامرا من بلاد العراق في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 220 هجريا، في وقت بدأت فيه العواصف السياسية تثور، وسلطة الخلفاء العباسيين تتدلى بتغلب الأتراك من أتباعهم.
 
ويقال إن والده كان من قبائل القفجاق وترجع أصوله إلى قبيلة التزغز، وتحديدا إلى أسرة كانت تقيم في بخارى، وهم جزء من نسيج المغول مع قبيلة الأغوز، وهم من القبائل التي شكلت فيما بعد تركيا، وذكرتهم نقوش "أرخون" في القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي" باسم "التغزغز" أي القبائل العشرة.

نشأته
 
ووفقا لكتاب "تاريخ ووصف الجامع الطولوني" تأليف محمود عكوش، نشأ أحمد في حضن والديه حتى أتم عامه العشرين، وكانت مخايل النجابة ظاهرة عليه من صغره، فأخذ بحظ عظيم من العلم، وحفظ القرآن الكريم، وصار من أحفظ الناس له، ولازم مجالس المحدثين، وترفع عن مجالسة السوقة ومخالطتهم.
 
كان والده «طولون» مملوكاً لنوح بن أسد الساماني عامل بخارى وخراسان، فأرسله هدية إلى الخليفة المأمون مع من أُرسل من المماليك الترك سنة 200هـ/816م، واسم طولون مشتق من كلمة تركية معناها البدر الكامل.
 
وبعد موت أبيه كفله رفقاؤه، فانصرف لخدمة السلطان، وحسن ذكره وعرف بعلو الهمة وحسن الأدب فزوجه يارجوخ التركي من أكابر رجال الدولة العباسية ابنته، وولدت له العباس وفاطمة.
 
وخرج إلى طرسوس وفي عودته منها سطا الأعراب على قافلته فرمى بنفسه عليهم ووضع السيف فيهم حتى انهزم الأعراب واستنقذ منهم جميع ما أخذوه، وكان فيه بغل محمل بمتاع خاص بالخليفة المستعين، فلما اتصل به خبر ذلك عظم أحمد في عينيه، وتوالت عليه جوائزه حتى حسنت حاله، وكان فيما وصله به جارية اسمها مياس استولدها أبا الجيش خمارويه.

انتداب أحمد بن طولون لمرافقة المستعين
 
وفقا للكتاب سالف الذكر، فأنه لما بويع المعتز ونفي المستعين إلى واسط اختار الأتراك أحمد بن طولون ليكون معه، فمضى به إلى واسط فأحسن عشرته وشكر حسن بلائه عنده، وأطلق له التنزه والصيد وعامله بالإكرام، وخاف غلمان المتوكل من المستعين فطلب من أحمد بن طولون قتله فامتنع وكتب إلى الأتراك أنه لا يقتل خليفة له في رقبته بيعة، فأنفذوا سعيدا الحاجب فتسلَّم المستعين منه بحضور القاضي والشهود وقتله وأخذ رأسه، فوارى ابن طولون جثته وعاد إلى سامراء وكان يقول: لقد وعدني الأتراك إن قتلت المستعين أن يولوني واسطا، فخفت الله ولم أفعل فعوضني ولاية مصر والشام وسعة الأحوال.

أحمد بن طولون فى مصر 
 
ولما تقلد باكباك مصر، وكان من عادة من يتولَّى من الأتراك على الأطراف أن يقيم في الحضرة ويستخلف عنه غيره، ذكر له أحمد بن طولون فاستخلفه على مصر وضم إليه جيشا فدخلها ومعه أحمد بن محمد الواسطي في يوم الأربعاء لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة 254 هجريا متقلدا للقصبة وأسيوط وأسوان، ونزل بدار الإمارة من العسكر.
حاله عند دخول مصر: وكان في أضيق حال، يحتقره كل من يراه، قيل كان بمصر رجل من الأعيان يقال له علي بن معبد البغدادي، وكان في سعة من المال، فلما بلغه حضور الأمير أحمد خرج إلى تلقيه، فلما رآه في ضيق حال أرسل إليه عشرة آلاف دينار فقبلها ورأى بها موقعا، وحظي ذلك الرجل عنده فكان لا يتصرف في شيء من الأمور إلا برأي ذلك الرجل، وتضاعفت عنده منزلته إلى الغاية.
 
كان من عادة الولاة الكبار، الذين يعينهم الخليفة للأقاليم الخاضعة له أن يبقوا في عاصمة الخلافة؛ لينعموا بالجاه والسلطان، والقرب من مناطق السيادة والنفوذ، وفي الوقت نفسه ينيبون عنهم في حكم تلك الولايات من يثقون فيهم من أتباعهم وأقاربهم، ويجدون فيهم المهارة والكفاءة. وكانت مصر في تلك الفترة تحت ولاية القائد التركي “باكباك” زوج أم أحمد بن طولون، فأناب عنه وفقًا لهذه العادة ابن زوجته “أحمد” في حكم مصر، وأمدَّه بجيش كبير دخل مصر في (23 من رمضان 254هـ = 16 من سبتمبر 868م).

نفوذه وتوليه ولاية مصر
 
وازدادت قدم ابن طولون رسوخا، وقوي سلطانه بعد أن أسندت ولاية مصر إلى "يارجوخ" والد زوجة ابن طولون، فعمل على تثبيت صهره، وزاده نفوذا بأن أضاف إليه حكم الإسكندرية، ولم يكتف ابن طولون بما حقق من نفوذ في مصر؛ فتطلع إلى أن تكون أعمال الخراج في يده، وكان عامل الخراج يعين من قبل الخليفة العباسي، ولم يكن لوالي مصر سلطان عليه، غير أن أحمد بن طولون نجح في أن يستصدر من الخليفة "المعتمد على الله" في (256-279هـ = 870-892م) قرارا بأن يضيف إليه أعمال الخراج؛ فجمع بهذا بين السلطتين المالية والسياسية، وقويت شوكته، وعظم سلطانه، وكان أول عمل قام به أن ألغى المكوس والضرائب التي أثقل بها عامل الخراج السابق كاهل الشعب.

مظاهر الحضارة 
 
كان أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول؛ فعُنيَ بشؤون دولته؛ وما يتصل بها من مناحي الحياة، ولم تشغله طموحاته في التوسع وزيادة رقعة دولته عن جوانب الإصلاح والعناية بما يحقق الحياة الكريمة لرعيته؛ ولذا شملت إصلاحاته وإسهاماته شؤون دولته المختلفة.

تأسيس مدينة القطائع
 
وبعد توليه الحكم، وبعدما رأى ابن طولون الفسطاط والعسكر تضيقان عنه وعن جنوده، فكر في بناء عاصمة جديدة وسماها القطائع، فبناها متأثراً ببهاء سامراء التي نشأ بها، واختار أحمد بن طولون لمدينته المنطقة الممتدة ما بين جبل يشكر وسفح جبل المقطم.
 
حرص على أن تقوم المدينة الجديدة على مرتفع من الأرض لتبرز على سائر المجموع العمراني بمصر، وبعد تأسيس المدينة أنشأ فيها أحمد بن طولون قصره الضخم وجامعه الشامخ ودارا للأمارة بجوار جامعه وكان بينهما ساحة فسيحة كانت ملعبا له ولقواد الجيش، كما أنشأ المستشفيات والبيوت، و"القطائع" هى ثالثة العواصم الإسلامية في مصر، كانت تقع شمالي الفسطاط من قبة الهواء التي صار مكانها الآن قلعة الجبل

مسجد أحمد بن طولون
 
وأنشأ في وسط المدينة مسجده المعروف باسمه إلى اليوم؛ وهو من أكبر المساجد، وتبلغ سعته 8487 مترا مربعا، ولا يزال شاهدا على ما بلغته الدولة الطولونية من رقي وازدهار في فنون العمارة.
 
وبحسب المؤرخ تقى الدين المقريزي في كتابه "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" هذا الجامع موضعه يعرف بجبل يشكر، قال ابن عبد الظاهر: وهو مكان مشهور بإجابة الدعاء، وقيل إن موسى عليه السلام ناجى ربه عليه بكلمات، وابتدأ في بناء هذا الجامع الأمير أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع، في سنة ثلاث وستين ومائتين.
 
قال جامع السيرة الطولونية: كان أحمد بن طولون يصلّى الجمعة في المسجد القديم الملاصق للشرطة، فلما ضاق عليه بنى الجامع الجديد، مما أفاء الله عليه من المال الذي وجده فوق الجبل في الموضع المعروف بتنور فرعون، ومنه بنى العين. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود، فقيل له: ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب، فتحمل ذلك، فأنكر ذلك ولم يختره، وتعذب قلبه بالفكر في أمره، وبلغ النصراني – يقصد المهندس القبطى سعيد بن كاتب الفرغاني- الذي تولى له بناء العين، وكان قد غضب عليه وضربه ورماه في المطبق الخبر.
 
فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلّا عمودي القبلة، فأحضره وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: ويحك ما تقول في بناء الجامع؟ فقال: أنا أصوره للأمير حتى يراه عيانا بلا عمد إلّا عمودي القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، وصوره له فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه مأئة ألف دينار. فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصرانيّ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجيرو يبني إلى أن فرغ من جميعه، وبيضه وخلقه وعلق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القرّاء والفقهاء، وصلّى فيه بكار بن قتيبة القاضي، وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "من بنى لله مسجدا".

السر وراء مئذنة جامع أحمد بن طولون
 
يقول الأديب الكبير جمال الغيطانى في كتابه "ملامح القاهرة فى ألف سنة" كتب التاريخ أن أحمد بن طولون كان رجلاً جاداً، لا يضيع جزءاً من وقته فى العبث أو اللهو، وفى أحد الأيام، كان يجلس مع بعض رجال دولته، وكان الحديث حول المسجد الجديد الذى نوى بناءه فى مدينته الجديدة التى اختطها "القطائع" ساد صمت، أطرق ابن طولون، وراح يلف ورقة حول إصبعه، انتبه فجأة إلى أنهم ضبطوه فى لحظة عبث أراد أن يبرهن لهم أنه كان منصرفاً على عمل نافع يتدبره، فثبت الورقة على وضعها حول إصبعه، وقال بسرعة: "اعملوا لى مئذنة على هيئة هذا المخروط".
 
ويرى "الغيطانى"، أن القصة ربما تبدو مقنعة لتفسير هذا الشكل الغريب لمئذنة ابن طولون، أقدم مآذن القاهرة، لكن لو عرفنا أن ابن طولون قضى أوج حياته فى مدينة سامراء العراقية، قبل أن يفد إلى مصر، وإذا لاحظنا مئذنة جامع سامراء القائمة فى الزيادة الشمالية للمسجد (تماماً كمئذنة ابن طولون) التى لا تتصل بسائر مبنى المسجد، تبدو كأنها منفصلة عنه، ولا ترتبط به إلا بواسطة قنطرة محمولة على عقدين متجاورين، وكلتا المئذنتين تتكون من قاعدة مربعة تقوم عليها ساق أسطوانية يلف حولها من الخارج سلم دائرى عرضه حوالى 90 سنتيمتراً له سور دائرى أيضاً، هناك إذن تشابه بين مئذنة ابن طولون ومئذنة جامع سامراء.
 
وأكد المؤلف: زرت كلا المئذنتين، ولا شك أن كلا منهما توحى بالأخرى، خاصة عند صعود السلم الدائري، والوصول إلى قمة أى منهما. الفرق أن سلم ملوية سامراء غير مسور أما سلم مئذنة ابن طولون فيحف به سور منخفض. ولا شك أن مئذنة سامراء كانت ماثلة فى ذهن ابن طولون والمئذنة التى نراها اليوم فى زمنين مختلفين، نصفها الأسفل المربع، والجزء الأسطوانى من البناء الأصلي، أما الجزء العلوى المكون من طابقين فقد أضافهما السلطان لاجين عام (1296م)، ويقال أنه فعل ذلك نتيجة لنذر قطعه على نفسه عندما كان مطارداً، واختبأ فى المسجد قبل اعتلائه كرسى السلطنة وكانت المئذنة وقتئذ مهدمة، تطل برثاء على المسجد الفسيح الساكن، والذى عبر كل الأعاصير والتقلبات ووصل إلى زماننا سالماً.

أساطير الجامع عند المصريين
 
تم بناء المسجد فوق ما أطلق عليه المصريين "جبل يشكر" هذا الجبل الذى اعتقد فيه المصريين لسنوات طويلة بمعجزاته، وأن من أراد أن يستجاب دعائه فليقف على جبل يشكر، لأنه هذا المكان الذى ناجى موسى ربه من فوقه، وأنه هو المكان الذى رست فيه سفينة سيدنا نوح، وهو أيضا المكان الذى نزل فيه آدم وحواء من فوق الجنة.
 
وقال الأديب الكبير جمال الغيطانى إن هذا المسجد لا تقام فيه الصلاة لأن المصريين يقولون إن السيدة نفيسة دعت بعد الصلاة فيه، حيث يقال إن قادت السيدة نفيسة ثورة الناس ضد ابن طولون لمّا استغاثوا بها من ظلمه، وكتبت ورقة، فلما علمت بمرور موكبه خرجت إليه، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرقعة التي كتبتها وفيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون»، ويقول القرماني: فعدل من بعدها ابن طولون لوقته.
 
ودارت «حول المسجد» إشاعات أن مصدر المال الذى انشئ به غير معروف فجمع الناس فى خطبة جمعة وأقسم لهم أنه انشأه من كنز عثر عليه وتمر الايام يتعرض المسجد الفريد للاهمال مع انهيار الدولة الطولونية حتى تم إعادة ترميمه.

وفاء مثيرة وقبر مجهول
 
تكشف لنا سيرة ابن طولون، أنه توجه في العام الأخير من حياته إلى الشام لقتال أحد قواده الذي حاول الاستيلاء على حكم “طرطوس”، وبعدما فشل في القضاء على تمرد هذا القائد، توجه ابن طولون إلى أنطاكية، وهناك أصيب بمرض في أحشائه نتيجة إكثاره من شرب لبن، يعتقد أنه كان ملوث، ونتيجة البرودة الشديدة في تلك الفترة من العام، اشتد المرض على ابن طولون، ولم يفلح الأطباء في علاجه، فعاد إلى الفسطاط وهو في النزع الأخير، وتوفي، ودفن في سفح جبل المقطم.
 
وهذا هو كل المعروف عن موضع دفن ابن طولون، أنه فقط دفن في سفح جبل المقطم، ولكن لا يعرف موضع محدد لمدفنه، ولا ضريح مشهور، وهو أمر غريب، بالنظر لقوة ابن طولون وقوة دولته في ذلك الوقت، التي كانت لا تزال في أوج مجدها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة