هل يجوز للأغنياء أن يأكلوا من طعام النذر؟.. علي جمعة يجيب
السبت، 25 يونيو 2022 05:53 م
رد الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار علماء الأ زهر في إجابته على سؤال جاء فيه: نذر رجل قائلًا: لو صحَّ ابني من المرض فسأطعم المصلين الحاضرين في يوم الجمعة في هذا المسجد. فهل يجوز للأغنياء أن يأكلوا من هذا الطعام؟ أو نَذَر: لو صحَّ ابني من المرض فسأضحي الغنم في يوم عيد الأضحى. فهل يجوز للأغنياء أن يأكلوا من هذا اللحم؟ أريد الجواب على مذهب الحنفية.
وقال جمعة: النذر في الحالتين صحيحٌ، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه على مذهب الحنفية؛ لأن الزكاةَ لا تصحُّ للأغنياء، فكذلك لا يصح نذرُ الصدقةِ لهم. ومَن نذر الأضحية فعليه شاتان: شاة للأضحية، وشاة للنذر، إلا إذا كان قد قصد بنذره الإخبارَ عن الأضحية الواجبة لا الزيادة عليها؛ فيلزمه حينئذٍ شاةٌ واحدة.
أولًا: النذرُ عبادةٌ مشروعة، وهو لا يصحُّ عند السادةِ الحنفية إلا إذا كان قربةً مقصودةً وكان من جنسها واجبٌ شرعيٌّ، ومن أجل ذلك صحَّ النذرٌ بالتصدُّق عندهم؛ لأنَّ الصدقةَ من جنسها فرضٌ وهو الزكاة، فلَمَّا كانت لا تصِحُّ للأغنياءِ لم يصح نذرُ الصدقة لهم أيضًا، فإنَّ النذرَ بإعطاء الأغنياءِ أصالةً أو تبعًا نذرٌ لمخلوق وهو لا يجوز، وليس هو قربةً مقصودة ولا من جنسها واجبٌ شرعي.
وقال العلامة الحصكفي في "الدر المختار": [(ومَن نذر نذرًا مطلقًا أو معلَّقًا بشرط وكان من جنسه واجب) أي فرض كما سيصرح به تبعًا لـ"البحر" و"الدرر" (وهو عبادة مقصودة) خرج الوضوء وتكفين الميت (ووجد الشرط) المعلَّق به (لزم الناذر)؛ لحديث: «من نذر وسمَّى فعليه الوفاء بما سمَّى» (كصوم وصلاة وصدقة) ووقف (واعتكاف) وإعتاق رقبة وحج ولو ماشيًا، فإنها عبادات مقصودة، ومِن جنسها واجب؛ لوجوب العتق في الكفارة، والمشي للحج على القادر من أهل مكة، والقعدة الأخيرة في الصلاة، وهي لبث كالاعتكاف، ووقف مسجد للمسلمين واجب على الإمام من بيت المال، وإلا فعلى المسلمين (ولم يلزم) الناذر (ما ليس من جنسه فرضٌ كعيادة مريض وتشييع جنازة ودخول مسجد) ولو مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو الأقصى؛ لأنه ليس من جنسها فرض مقصود، وهذا هو الضابط كما في "الدرر".
قلت: ويزاد ما في "زواهر الجواهر": وأن لا يكون مستحيل الكون فلو نَذَرَ صومَ أمس أو اعتكافه لم يصحَّ نذرُهُ.
وفي "القنية": نذر التصدق على الأغنياء لم يصح ما لم ينوِ أبناء السبيل] اهـ.
وتمام عبارة "القُنْيَة" كما ذكرها العلامة ابن نجيم في "البحر الرائق": [نذرَ أن يتصدَّق بدينارٍ على الأغنياءِ ينبغي أن لا يصح، قلتُ -القائل هو ابنُ نجيم: وينبغي أن يصحَّ إذا نوى أبناءَ السبيلِ؛ لأنَّهم محلُّ الزكاة، ولو قال: إن قدِم غائبي فلله عليَّ أن أُضَيِّف هؤلاء الأقوامَ وهم أغنياءُ، لا يصح] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (4/ 41): [قلت: ولعلَّ وجهَ عدمِ الصحة في الأوَّل عدمُ كونِها قربةً، أو مستحيلةَ الكون لعدم تحقُّقها؛ لأنَّها للغني هبة كما أنَّ الهبةَ للفقيرِ صدقةٌ] اهـ.
وقال الامام الطحطاوي في "حاشيته على الدر المختار": [قوله: على الأغنياء لم يصح؛ لأنه ليس من جنسه واجبٌ، وقوله: ما لم ينوِ أبناءَ السبيل؛ لأنَّهم مصرفٌ للزكاة. وفي "الهندية": نذرَ أن يتصدَّق بدينارٍ على أغنياء ينبغي أن لا يصح، وقيل: ينبغي أنْ يصحَّ إذا نوى ابنَ السبيل] اهـ.
ونقل العلامة ابنُ نُجيم في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" عن الشيخ قاسم أنه قال في "شرح الدرر": [وأما النَّذر الذي ينذره أكثرُ العوامِّ على ما هو مشاهدٌ؛ كأنْ يكون لإنسانٍ غائبٌ أو مريضٌ، أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعضَ الصلحاءِ فيجعل سُتْرةً على رأسهِ فيقول: يا سيدي فلان إنْ رُدَّ غائبي أو عُوفيَ مريضي أو قُضِيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع كذا، أو من الزيت كذا، فهذا النذرُ باطلٌ بالإجماعِ؛ لوجوهٍ: منها أنَّه نذرُ مخلوقٍ والنذرُ للمخلوقِ لا يجوز؛ لأنَّه عبادةٌ والعبادة لا تكون للمخلوق، ومنها أنَّ المنذورَ له ميت، والميت لا يملك، ومنها إنْ ظن أنَّ الميتَ يتصرفُ في الأمور دون الله تعالى واعتقادُه ذلك كفرٌ، اللهم إلَّا إن قال: يا الله إني نذرت لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أُطْعِم الفقراءَ الَّذين ببابِ السيدة نفيسة، أو الفقراءَ الذين ببابِ الإمام الشافعيِّ، أو الإمامِ اللَّيْث، أو أشتري حُصُرًا لمساجدهم، أو زيتًا لوقودها أو دراهمَ لمن يقوم بشعائرِها إلى غير ذلك مما يكونُ فيه نفع لِلفقراءِ والنَّذر لله عز وجل.
وذِكر الشيخ إنَّما هو محلٌّ لصرفِ النذر لمستحقيه القاطنين برباطِهِ، أو مسجدِهِ، أو جامعهِ، فيجوز بهذا الاعتبار؛ إذ مصرفُ النذرِ الفقراءُ، وقد وجد المصرف، ولا يجوز أنْ يُصْرَف ذلك لغنيٍّ غيرِ محتاج ولا لشريفِ منصبٍ؛ لأنَّه لا يحل له الأخذ ما لم يكن محتاجًا أو فقيرًا، ولا لذي النسبِ لأجلِ نسَبِهِ ما لم يكن فقيرًا، ولا لذي علمٍ لأجلِ علمِهِ ما لم يكن فقيرًا، ولم يثبت في الشرع جوازُ الصرف للأغنياءِ؛ للإجماع على حرمة النذرِ للمخلوق ولا ينعقدُ ولا تشتغل الذمةُ به، ولأنَّه حرامٌ بل سحت، ولا يجوز لخادمِ الشيخِ أخذُه ولا أكلُهُ ولا التصرُّف فيه بوجهٍ من الوجوهِ إلا أن يكونَ فقيرًا أو له عيال فقراء عاجزون عن الكسب وهم مضطرون فيأخذونه على سبيل الصدقةِ المبتدأةِ، فأخذُه أيضًا مكروهٌ ما لم يقصد به الناذرُ التقربَ إلى اللهِ تعالى وصرفَهُ إلى الفقراءِ، ويُقطع النظرُ عن نذرِ الشيخِ، فإذا علمت هذا فما يُؤخَذُ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها ويُنقَل إلى ضرائحِ الأولياء تقربًا إليهم فحرامٌ بإجماع المسلمين ما لم يقصدوا بصرفِهَا للفقراءِ الأحياء قولًا واحدًا] اهـ.
وعلى ذلك فالنذرُ بإطعامِ أهل المسجد -أغنياء وفقراء- لا يصح أن يأكلَ منه الأغنياءُ عند الحنفية قولًا واحدًا، وفي إبطالِ النذرِ وتصحيحهِ مع دفعِه للفقراءِ قولان:
- فمن الحنفية من يراه باطلًا كما هو ظاهر ما سبق من أنَّ النذرَ للأغنياء لا يصح أصلًا؛ جاء في "تنقيح الفتاوى الحامدية" لابن عابدين: [سُئِلَ في رجلٍ أشهد عليه أنَّه إن أخذ بنته من جدها يكنْ في ذمته لمطبخ والي البلدة كذا من القروش، فهل إذا أخذها من جدها لا يلزمه شيء؟ الجواب: نعم؛ لأنَّ النَّذرَ لا يكون لمخلوقٍ، ولا تُسمع الدعوى عليه بذلك، ولا يقضي القاضي بالنذرِ وإن كان صحيحًا كما في الخيرية وغيرها] اهـ.
- ومنهم من يصحِّحه ويجعله للفقراء دون الأغنياء؛ قال العلامة الرافعي في تقريراته على العلامة ابن عابدين (2/ 15): [قوله: قلت: ولعلَّ وجهَ عدمِ الصحةِ... قلت: بل نذرُه أن يتصدَّق بدينارٍ صحيح، وقوله بعده: على الأغنياءِ رجوع فلا يصح، نظير ما لو نذرَ ركعتين بلا طهارة. مقدسي] اهـ.
وهذا المسلكُ هو الأنسبُ بمقصودِ الشارع في تصحيحِ كلامِ المتكلم مهما أمكن ذلك، لا سيَّما إن ساعده العرفُ، فإنَّ إعمال الكلامِ أَولَى من إهماله، وهو الذي نُفْتِي به في مسألة إطعامِ المصلِّين الحاضرين يومَ الجمعة في المسجدِ؛ لأنه لم يُنَصَّ هنا على الأغنياء، فيَقْوَى القولُ بتصحيح النذر بناءً على أنه عامٌّ أُريد به الخصوص، أو أنه عامٌّ مخصوص بمن لا يصح صرف النذر إليهم وهم الأغنياء، وينصرف حينئذ جزمًا إلى الفقراءِ من المصلين الحاضرين، ويَحْرُم على الأغنياءِ الأكلُ منه.
وكذلك الحال في نذر الأضحية، فقد اتفق الفقهاء على أن نذر الأضحية يوجبها على الناذر، سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا، وعند الحنفية أنه إذا نذر أضحية فإنه تجب عليه أضحيتان: إحداهما واجبة بالشرع، والأخرى واجبة بالنذر، إلا إذا كان نذره هذا في أيام النحر وقصد به الإخبار عن الواجب عليه فينصرف النذر إلى الأضحية الواجبة بالشرع؛ قال العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (4/ 40): [(وأن لا يكون واجبًا عليه قبل النذر) في أضحية. "البدائع": لو نذر أن يضحي بشاة -وذلك في أيام النحر، وهو موسر- فعليه أن يضحي بشاتين عندنا: شاة للنذر، وشاة بإيجاب الشرع ابتداءً، إلا إذا عنى به الإخبار عن الواجب عليه، فلا يلزمه إلا واحدة، ولو قبل أيام النحر لزمه شاتان بلا خلاف؛ لأن الصيغة لا تحتمل الإخبار عن الواجب؛ إذ لا وجوب قبل الوقت، وكذا لو كان معسرا ثم أيسر في أيام النحر لزمه شاتان. اهـ. والحاصل أن نذر الأضحية صحيح، لكنه ينصرف إلى شاة أخرى غير الواجبة عليه ابتداء بإيجاب الشرع، إلا إذا قصد الإخبار عن الواجب عليه وكان في أيامها] اهـ.
ولا يجوز أن يأكل منها الأغنياء أيضًا، ولا أن يأكل منها صاحبها، وبذلك قال الشافعية أيضًا؛ قال العلامة ابن نُجيم في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق": [وإذا لم تكن واجبة وإنما وجبت بالنذر فليس لصاحبها أن يأكل منها شيئًا ولا أن يُطعِم غيره من الأغنياء، سواء كان الناذر غنيًّا أو فقيرًا؛ لأن سبيلَها التَّصَدُّقُ، وليس للمتصدق أن يأكل من صدقته ولا أن يطعم الأغنياء] اهـ.