التصدي لـ"العائدون من داعش".. مواجهة مصرية حاسمة أنقذت العالم من القنابل البشرية الموقوتة
السبت، 28 مايو 2022 11:00 م
-الأجهزة المصرية منعت تحويل العناصر الهاربة من التنظيمات الإرهابية إلى بوابات جديدة لانطلاق مصانع للإرهاب المسلح
تاريخياً تعد مصر من الدول القليلة التي تنبأت مبكراً بمصير العائدين من التنظيمات الإرهابية، ليس فقط المصريين الذين انخرطوا في هذه التنظيمات، ولكن كل الجنسيات، لأنها كانت تدرك منذ البداية إن القضاء على هذه التنظيمات ليس الهدف في حد ذاته، وإنما الهدف يكتمل بوضع آليات واضحة للتعامل مع المنخرطين في هذه التنظيمات، حتى لا تكون عودتهم لبلدانهم وبال شر على هذه البلدان.
فالقاهرة لم تنتظر تسلل الإرهابيين إلى الحدود المصرية، بل أنها بادرت بضربهم في عقر دارهم وتجفيف المنبع من الخارج، والعمل على وقف المد التكفيري والتنظيمي والتمويل الخارجي، لأنها كانت تدرك منذ البداية أن ظاهرة العائدين أشبه بقنابل بشرية موقوتة تهدد دول العالم، وأصبحت بوابات لانطلاق مصانع للإرهاب المسلح.
وزاد من اهتمام مصر في هذه الجزئية تحديداً، بعدما توفر ليها من معلومات بإن الدول أو أجهزة المخابرات التي تقف خلف هذه التنظيمات الإرهابية لديها خطط بديلة، لتوزيع عناصر التنظيمات على دول مختلفة ليست في الحسبان، حتى تعيد استخدامهم مرة أخرى وقت الضرورة.
لذلك نشطت الأجهزة المصرية في مسارات متعددة، للتعامل مع العائدون من التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش"، وبدأت في تعقب خطط هذه التنظيمات وأعضائها، خاصة في المحيط العربى، وتحديداً سوريا والعراق وليبيا، التي تحولت بعد أحداث ما سمى بالربيع العربى، إلى بؤر لتجمع داعش وغيرها من الميليشيات الإرهابية، وتواصلت الأجهزة المصرية مع نظيرتها في الدول المعنية، لتبادل الرؤى والمعلومات بشأن مستقبل العناصر الفارة داعش وغيرها، وكان نتيجة ذلك أن أمنت مصر موقفها منذ البداية، ثم عملت على تأمين الدول المستهدفة، خاصة في الغرب الأفريقي، الذى عملت بعض القوى الدولية والإقليمية لتحويلها إلى أماكن بديلة لعناصر داعش، وكانت "جامبيا" في مقدمة الدول المستهدفة لنقل الإرهابيين إليها.
والمتتبع لمسارات التحرك المصرى، سيجد أنه تعامل بحرفية شديدة مع هذا الوضع، سواء من خلال العمليات السرية للأمن المصري وتصديه للمؤامرات والمخططات الإرهابية التي تهدف لإخلال الأمن في مصر، وتقسيم المنطقة العربية وانتشار التنظيمات الإرهابية الممولة من الخارج، أو من خلال تحذير الدول المستهدفة، حتى لا تتحول إلى أوكار جديدة للإرهابين، وهو ما نجحت فيه مصر بامتياز شديد، ما دفع هذه الدول إلى توجيه الشكر للإدارة المصرية الحكمية في هذا الملف شديد التعقيد، الذى أحتاج يقظة تامة من القائمين على الأمن المصرى، خاصة إن تفاصيل هذه المخططات كانت تجرى خارج الحدود المصرية، وبرعاية ودعم من أجهزة مخابرات دولية، مما القى بأعباء شديدة على الأجهزة المصرية، لكنها كما كان متوقعاً منها، كانت عند حسن ظن الجميع بها، واستطاعت ان تحقق نجاحات موثقة في هذا الملف.
أردت أن أبدا مقالى بهذه المقدمة، تمهيداً للحديث عن مسلسل "العائدون" الذى أذيع خلال شهر رمضان، وهو المسلسل الذى اعتمد على قصة حقيقية، عن العائدون من أوكار الإرهاب في الفترة ما بين 2018 و2020، وكيف تصدت لهم المخابرات المصرية، ونجحت في القضاء عليهم، فالمسلسل الذى تعلق به المصريين بل والعرب جميعاً، استطاع أن يرسم صورة واقعية لجزء من المجهود الذى قامت به الدولة المصرية لتأمين أمنها، والعمل على الا تمتد مخاطر العائدين من داعش لدول أخرى، كانت تظن نفسها بمنأى عن الإرهاب، رغم إن الخطط كانت تستهدفها مباشرة، لكن بصبر وحرص شديد ومعلومات موثقة استطاعت مصر أن تبنى جبهة دولية قوية، تصدت لهذه الهجمة التي كانت تستهدف مصر ودولاً أخرى كثيرة، بل وتفسد مخطط كانت نتائجه ستكون كارثية لو جرى تطبيقه كما خطط له القائمين عليه.
المسلسل الذى انتجته شركة ميديا هب سعدي- جوهر، وضم نجوم كثر أبرزهم أمير كرارة، أمينة خليل، محمود عبدالمغني، أحمد الأحمد، ميدو عادل، هاني رمزي، محمد فراج، محمد ممدوح، وتأليف باهر دويدار وإخراج أحمد نادر جلال، تعامل المسلسل بالكثير من الحذر مع ملفات معاصرة تتعلق بواحدة من أكثر الملفات تعقيدا وتشابكا فى العصر الحديث، حيث ظهر تنظيم داعش الإرهابى بسرعة، بعد أن تم إعداده فى أعقاب غزو العراق 2003، ثم خلطة من فلول تنظيم القاعدة وبقايا جيش العراق، مع تجنيد مرتزقة من كل دول العالم، ومن العراق انطلق التنظيم الإرهابى بمعرفة عدد من الدول الكبرى والإقليمية، إلى دول أخرى مثل سوريا وليبيا، على أمل تغيير على الأرض من خلال توظيف التنظيمات الإرهابية لحروب بالوكالة، تتم بعدها إعادة تقسيم المنطقة.
و"العائدون" في القاموس المصرى ليس بجديد، فهو موجود في العقلية المصرية منذ انتهاء الحرب بالأفغانية ضد الاتحاد السوفيتى في السبعينات، وما ترتب على ذلك من عودة بعض ممن يسمون أنفسهم بالجهادين إلى مصر، وبعضهم ذهب إلى أوروبا ثم عادوا إلى القاهرة وبعضهم جرى القبض عليهم في الخارج وتم تسليمهم إلى السلطات المصرية، لذلك تعمل الأجهزة الأمنية في ملف العائدين، منذ السبعينيات والثمانينيات، حيث تعاملت مع خلايا تنظيمية مثل التكفير والهجرة وغيرها من الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ما منح الأجهزة خبرة طويلة في التصدي لمخططاتهم، لذلك فالتفكير المصرى دائما ينصب على المستقبل وهو يراقب الإرهاب ويتتبع خيوط تحركه، لإنه يدرك ان المواجهة مستمرة، ولا تنتهى بمجرد القضاء على البؤر التي يتواجد فيها الإرهاب، وإنما ممتد إلى حين الإجابة على السؤال الملح "أين سيذهب العناصر الإرهابية مستقبلاً؟".
ولكى نعرف قيمة هذا السؤال، وأهمية الإجابة عليه، أشير إلى تقرير صدر عن لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2019، فالتقرير قال أن رصد عدد العناصر الأجنبية التي انضمت إلى "داعش" في سوريا والعراق بلغ حوالي41490 شخصًا، قتل منهم من قتل، لكن بقى منهم كثيرين هم من نطلق عليهم "العائدون"، لانهم بطبيعة الحال سيبحثون عن عودة إلى بلدانهم مرة أخرى أو البحث عن دول بديلة، بعدما نجحت الضربات الأمنية في سوريا والعراق في تحجيم "داعش" والسيطرة على عدد كبير من بؤره.
والمهم في هذا الرصد الذى قامت به الأمم المتحدة، عن المنضمين لداعش ينتمون لأكثر من 80 دولة، متنوعة ما بين اوربية وعربية، ولم تقتصر ظاهرة العائدين من "داعش" على الرجال فقط، بل اشتملت على النساء أيضًا؛ حيث أشارت تقديرات أممية إلى أن هناك نحو 40 ألف طفل من عناصر تنتمي إلى التنظيم يعيشون في مخيمي الهول وروج ومعظمهم تحت سن الـ12 عامًا، ناهيك عن وجود حوالي 12 ألف طفل من عائلات داعش في سجون العراق.
هذه الأرقام مهمة ونحن نتحدث عن ظاهرة العائدين من داعش.
وبالعودة إلى مسلسل "العائدون" فإن قيمته تكمن فى رصده لجزء مهم من المراحل الأخيرة للتنظيم الإرهابى، المرحلة التى تقاطعت فيها الأجهزة المصرية وتدخلت لتغيير المعادلة، فهذه المرحلة التي تحدث عنها المسلسل شهدت تحقيق الدولة المصرية نجاحات متتالية على الإرهاب في الداخل، وفى نفس الوقت أيقنت أن النجاح في الداخل لابد أن يتزامن مع يقظة لما يحدث خارج الحدود، أو بمعنى أدق خطط إعادة تدوير الدواعش فى خطط جديدة وحروب بالوكالة، تؤدى وفق ما تم التخطيط له تفكيك وتخريب دول، بهدف إقامة دول وهمية عازلة تسهل خطط العزل وإعادة التقسيم، لذلك نشطت مصر في الخارج لترصد خيوط ما يحدث، والتعامل معه لوقف كل هذه المحاولات، ليكتب النجاح في المواجهة بالداخل والخارج أيضاً.
وعمل المسلسل على كشف خبايا المراحل الأخيرة من "داعش"، وفقاً لما توفر لدى الأجهزة المصرية من معلومات عن خطط تفكيك التنظيم ونقل أفراده من سوريا إلى دول كثيرة كانت من وجهة نظر المخططين جسرا لعبور المرتزقة، جسراً كان يمثل بالنسبة لهم "هدنة مؤقتة" يعودون بعدها في شكل جديد وربما باسم مستجد، لكن تدخلت مصر في الوقت المناسب لتقطع خيوط المؤامرة والمخطط، وتقف في وجه المخططين والمنفذين.
أقول أن "العائدون" رصد جزء من كثير مما قامت ولا تزال تقوم الدولة المصرية، في مواجهة التنظيمات الإرهابية، لإن هناك الكثير من التفاصيل والتقاطعات التى تمت على مدار السنوات القليلة الماضية، سيأتى اليوم الذى ستتكشف للعالم، وتؤكد كيف أن مصر من خلال أجهزتها الأمنية استطاعت إن تزود عن العالم أجمع في مواجهة تيارات وميليشيات إرهابية مسلحة، حاولت بدعم مالى ومادى أن تغير خريطة المنطقة على أمل أن تنطلق لتحدث تغيرات دولية، خاصة إن ظاهرة العائدين من داعش شكلت تحديًا كبيرًا أربك دولاً كبرى، خاصة إن الكثير من هذ الدول لم تكن تملك قاعدة معلومات واضحة عن أبنائها المنخرطين في هذه التنظيمات، وبالتالي فإن عودتهم لبلدانهم مرة أخرى كانت "عادية" في مظهرها لكنها "مقلقة" في تهديداتها المستقبلية، وهو ما استدعى تفعيل التعاون الإقليمي والدولي على الصعيدين الأمني والمعلوماتى، للعمل على إيجاد سياسات فاعلة وحلول مناسبة للتعامل مع الظاهرة، وهو الدور الذى قامت به مصر، ولا تزال تقوم به.
معارك وتفاصيل كثيرة، قامت بها مصر، في مواجهة تنظيم داعش الإرهابى، الذى لا يزال يمثل لغزاً في نشأته وفى نهايته أيضاً، لكنه لم يكن أبداً لغز لمصر، لإن مصر لم تكن مثل دولاً أخرى أرتكنت إلى نظريات لا طائل من ورائها، بل عملت الدولة المصرية منذ بداية ظهور هذا التنظيم الإرهابى على رصد كل معلومات عنه، واختراقه في كل مراحله، إلى أن أصبح التنظيم أشبه بالكتاب المفتوح أمام الأجهزة المصرية، وهو ما ساعدها في تحقيق النجاحات المتتالية ليس فقط ضد داعش، وإنما في مواجهة الكثير من التنظيمات والميليشيات الإرهابية المسلحة.