الموسيقى بين مصطفى الرافعي وديان الملاح
الأحد، 22 مايو 2022 10:00 ص
كتب مصطفى صادق الرافعي:
"اسلمي يا مصـرُ إنـنـي الـفِـدا ذي يــدي إن مــدَّتِ الــدنـيـا يـدا
أبـــدًا لـــن تــسـتــكـيـنــي أبـــدًا إنــنـي أرجـــو مــع الـــيــوم غـــدا
ومعي قلبـي وعزمـي للجـهاد ولـقـلـبي أنـتِ بـعـدَ الـدين ديــن
لـــكِ يـــــا مـصـــرُ الــســــلامـــة وســــــــلامًــــــــا يـــــــــــا بــــــــلادي
إنْ رمـــى الـــدهـــرُ ســـهـــامَــه أتَّـــــقــــيـــــــهـــــــــا بـــــــفـــــــؤادي"
ولحن الموسيقار صفر علي، ليصلنا نحن الناشئة النشيد المصفى الذي أولعنا بترديده ونحن نسبغ على أنفسنا هيئة الأبطال الذين ستتلقى السهام حماية لأمهم العظمى الجليلة.
تلك كانت بداية معرفتي بأديب وشاعر وناقد العربية الكبير الرافعي، وقد أحببته من يوم معرفتي، ثم قرأت أمهات كتبه وعرفت قصاصات من سيرته، فما زادتني معرفتي بكتبه وأشعاره إلا حبًا مع حب نشأ منذ الطفولة الباكرة.
ومع تلك المحبة لم أكن أنظر إليه نظرتي إلى أصحاب المعجزات، ولم أكن أشفق عليه، بل كنت أحيانًا أضيق ببعض تصرفاته كأني يرمي بقلبه في ميادين هو ليس من أهلها، ثم قرأت رواية النبيذة لأديبة العراق الأستاذة إنعام كجي جي في عامي الماضي، وكان قد مر على رحيل صادق الرافعي أربع وثمانون عامًا، فإذ بالرواية العجيبة تبعث الرافعي في قلبي من جديد وتجبرني على العطف عليه والبكاء من أجله ورفعه إلى مقام ومكانة أهل الإعجاز والمعجزات.
رواية الأستاذ إنعام ليس عن شيء سوى الموسيقى، وحياة الرافعي لم تكن سوى قطعة مؤلمة من موسيقى صامتة.
قرأت الرواية وأنا أتألم لمصير بطلتها وديان الملاح، فعدت إلى قراءة كتاب " حياة الرافعي " لتلميذه وصاحبه وكاتب سيرته الأستاذ محمد سعيد العريان، فعرفت أي رجل كان مصطفى صادق الرافعي.
قال العريان: "في السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية، وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية، أصابه مرض مُشفٍ أثبتَه في فراشه أشهرًا، وأحسبه كان التيفويد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرًا كان حبسةً في صوته ووقرًا في أذنيه من بعدُ. وأحس الرافعي آثار هذا الداء تُوقر أذنيه، فأهمه ذلك همًّا كبيرًا، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئًا، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عامًا بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأنَّ متحدثًا يتحدَّث وهو منطلق يعدو.. فإنَّ صوته ليتضاءل شيئًا بعد شيء، حتى فقدت إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتمَّ الثلاثين حتى صار أصمَّ لا يسمع شيئًا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس".
لا حول ولا قوة إلا بالله، هل الشعر شيء غير الموسيقى؟ هل شاعر لا يسمع الموسيقى؟ كيف يضبط شاعر موسيقى شعره وهو أصم لا يسمع قصف المدافع؟
كانت وديان الملاح بطلة النبيذة عازفة كمان بارعة، كانت تحنو على الكمان كما تحنو أم على وحيدها، كانت قادرة على التقاط أدق النغمات، كانت مفخرة العراق بين بنات وابناء جيلها.
كانت وديان مثل الرافعي كريمة بيت من بيوتات حاضرة الدنيا بغداد، وكان أهلها كرماء يحبونها ويحبون ما تفعل، وكان الرافعي ابن وحفيد لعلماء أجلاء يتولون أرفع مناصب القضاء في مصر، وكانوا يحبونه ويريدونه متفرغًا للعلم، ولكنه القهر يا صاحبي سيدمر حياة الاثنين، الرافعي ووديان.
تخلف الطب في زمن الرافعي (مات في العام 1937) كان هو القهر الذي أفقد الشاعر سمعه.
قهر وديان كان قهرًا معاصرًا، أجبرها ابن طاغية القوم على حضور حفلة من حفلاته، يضيق ابن الطاغية الملقب بالأستاذ ببوديان، فينتقم منها شر انتقام، يأتي بسماعات ويجبرها على وضعها على أذنيها، يعلو صوت الموسيقى فجأة ويخفت فجأة ثم يعود ليعلو، يظل ابن الطاغية يصب عذاب الموسيقى في أذني وديان حتى ينفجر مركز السمع، فتصب صماء.
موسيقية صماء، كيف يكون هذا؟
تقول الأستاذة إنعام على لسان وديان: "كاملة.بحواسي الخمس.هكذا ولدتني أمى. أبصر وأسمع وألمس وأتذوق وأشم".
لكن الأستاذ أحب أن يسلبني إحداها. هكذا، بقرار منه، أو برعونة، فقدت سمعي. أصبحت على حافة الصمم. أستعين بلوزتين إلكترونيتين أدسهما في كل أذن، تكبران لي صوت التلفزيون ورنين الجرس وأحاديث من حولي. أسمع أبواق السيارات ويفوتني حفيف الشجر ونقيق الضفادع وهسهسة النار وهمسة أشتاق إليها. أري الموج يتكسر على جرف النهر ولا تصلني طبطبة الموجة على الموجة. ترفرف أجنحة الحمام، خرساء، فوق رأسي. وغطاء إبريق الشاي يطفو فوق فورة الماء بسكون. لا نحاس يقرقع. لا منبه يوقظني. صار على أن أسمع العالم بعيني، بالأنامل. أتذوق الأحاديث وأنا ألملمها بأهدابي عن شفاه المتكلمين".
حظ الرافعي كان أسوأ من حظ وديان، يقول الأستاذ العريان: “وامتدَّ الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معًا، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينًا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة ".
حظ وديان كان أحسن قليلًا م حظ الرافعي فقد تمكنت من الفرار من جحيم الأستاذ إلى باريس، نعم لم يعد لها سمعها الذي سلبه الأستاذ ونعم لم تعد لها موسيقاها ولكن على الأقل تمكنت من أن تتنفس بعيدًا عن تلوث كوني صنعه الأستاذ بقمعه وجبروته وتسلطه.
كان حقًا عليّ أن أشفق على الرافعي وأنزله منزلته بين أصحاب الإعجاز والإنجاز، أصم لا يسمع قصف المدافع يكتب للوطن وعن الوطن خير الشعر ويكتب عن الحسناوات خير الغزل، أصم لا تحتفظ ذاكرة أذنيه سوى بتكبيرات العيد، ولذا كان يتمني لو عاد له سمعه فيسمعها ثانية حية حارة تعيده إلى براءة طفولته.
وبعدً فسأظل أشكر الأستاذة إنعام التي عرفتني بروايتها الفاتنة بوجه الإعجاز والإنجاز في حياة أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي.