عندما سطع نور الرجل الثاني (4ـ 4)
عبد الرحمن بن معاوية.. صقر ولد من رحم الموت
السبت، 30 أبريل 2022 11:00 محمدي عبد الرحيم
الأمير ابن الملوك رأي أخاه يقتل أمام عينيه وفر من القتل في بغداد ليؤسس مملكة في الأندلس
أصلح حال البلاد من الطرق والمعمار وأنشأ المساجد الكبيرة وعلى رأسها مسجد قرطبة الشهير وقرب إليه العلماء والفقهاء والماهرين في كل صنعة وفن
نختم ـ بحمد الله ـ مسلسلنا هذا بالحديث عن فرد فذ، من أفذاذ أمتنا.
كل الذين تحدثنا عنهم قبل رجل هذه الحلقة كانوا مرشحين بشكل أو بآخر لأن يكونوا رجال الصف الأول والمنصب الأول، لكن رجلنا تقدم الصفوف، كأنه سقط من السماء أو صعد من باطن الأرض.
رجلنا لم يكن رجلًا ثانيًا ثم قفز إلى مكانة الرجل الأول، رجلنا لم يكن مرشحًا إلا للموت بل لأشنع أشكال الموت.
ستعرف سره عندما تقرأ نسبه، إنه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.
هذا النسب مهم جدًا لأنه يكشف لنا سر الرجل من أول نظره، إنه أمير ابن ملوك، لكن نسبه من ناحية أبيه كان سيهلكه في أول أمره، والذي أنجاه هو نسبه من أمه، التي لا نعرف صحة اسمها، فمرة يقال إن اسمها هو راح ومرة يقال بل رداح، لكن يجمعون على أنها من الأمازيغ من قبيلة كبيرة تدعى نفزة.
ولد عبد الرحمن وأهله هم ملوك الإسلام، فقد ولد في العام 113 من الهجرة، وكان يعيش منعمًا بين العراق والشام حيث عاصمة الخلافة الأموية التي سيطرت على معظم العالم المعروف في ذلك الزمان.
فجأة ذهب كل شيء وضاع كل شيء، لقد تقدم العباسيون وأنهوا خلافة بني أمية.
طبعًا لا حديث عن تداول سلمي للسلطة، لقد أعمل بنو العباس سيوفهم في رقاب بني أمية، كانوا يقتلون كل من يظن في نفسه القدرة على منافستهم أو مزاحمتهم، نستطيع القول بأن ما تعرض له بنو أمية كان قريبًا من عمليات الاستئصال العرقي!
أين كان عبد الرحمن أو الشاب عبد الرحمن في تلك الأيام، كان يعيش في العراق، وفي ذات يوم، جاءه ولده الصغير يبكي، سأله عن سر بكائه.
أنقل عن الأستاذ راغب السرجاني، وغيره من الباحثين والمؤرخين: عرف عبد الرحمن سر بكاء طفله عندما نظر إلى خارج بيته فرأي رايات بني العباس تحاصر لا بيته فحسب بل القرية التي يسكن أحد بيوتها، لقد حان وقت القبض عليه ومن ثمّ قتله كان عبد الرحمن في ذلك اليوم في التاسعة عشرة من عمره، ولم يكن معه إلا شقيقه ابن الثالثة عشرة من عمره، أخذ عبد الرحمن أخاه الوليد بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأن العباسيين لم يكونوا يقتلون النساء ولا الأطفال، لكنهم كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلًا للخلافة، ثم خرج عبد الرحمن هاربًا نحو الفرات، وعند الفرات وجد عبد الرحمن بن معاوية وأخوه القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، حينها كان الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية قد أُجهد من السباحة، فأراد أن يعود، فناداه أخوه الأكبر أن لا تعد يا أخي وإلا فإنهم سوف يقتلونك، فردّ عليه إنهم قد أعطونا الأمان، ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى أن قتلوه أمام عين أخيه، عَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن على أخيه ابن الثالثة عشرة.
لك أن تتأمل الموقف لكي تعلم أي رجل كان عبد الرحمن ابن معاوية، شاب يطارده دولة.
فر عبد الرحمن من العراق وجاء إلى مصر، ومن مصر ذهب إلى ليبيا، ومن ليبيا توغل في أرض المغرب العربي حتى وصل إلى مدينة القيروان، مسلسل الهروب هذا نفذه ابن التاسعة عشرة متخفيًا لا يعلم أحد حقيقة شخصيته، فلو عرفته عيون بني العباس فهو مقتول لا محالة.
في القيروان كانت انتفاضة من انتفاضات الخوارج الذين يكرهون بني أمية كرهًا أشد من كره بني العباس لبني أمية.
إلى أين يذهب الأمير ابن الملوك.
هل سيظل متشردًا بقية عمره، أم يظهر على الناس فيقتل؟
هنا كانت النجاة بسبب نسب أمه.
لقد لجأ إلى أخواله قبيلة أمه وهم من الأمازيغ الذين كانوا يحبون بني أمية وأصبحوا يعانون من عنصرية بعض حكامهم العرب.
بعد طول تواصل لست سنوات كاملة من التشرد والتخفي قرر عبد الرحمن عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره الذهاب إلى الأندلس!
كان القرار مفصليًا، فهو من ناحية يعني مغادرة كل ما هو عربي أموي، ومن ناحية أخرى يعني البحث عن طوق نجاة.
تحدث عبد الرحمن طويلًا مع أخواله ومع مشايعي بني أمية في الأندلس، فوعدوه بالمساندة، وكان موالاه بدر قد سبقه إلى الأندلس ليجهز له الأرض.
بدر هذا يستحق دراسة خاصة، فقد بذل من الجهد من هو أكبر من طاقة الإنسان لكي يؤسس مع سيده عبد الرحمن دولة أموية جديدة.
دخل عبد الرحمن الأندلس، قرطبة تحديدًا ومن هنا جاء لقب الداخل لأنه أول حاكم أموي يدخل إلى قرطبة بوصفه حاكمًا وليس لاجئًا.
في الأندلس كانت الفتنة على أشدها بين حاكمها عبد الرحمن الفهري وجماعات من اليمنيين.
راسل عبد الرحمن الفهري أولًا وعرض عليه التنازل عن القيادة لصالحه مع ضمان وجود الفهري بين أكابر قواد الدولة الوليدة، رفض الفهري الصفقة، لجأ عبد الرحمن إلى اليمنيين وقال لهم: هيا نقاتل سويًا الفهري، لنؤسس معًا دولة جديدة.
قال اليمنيون لبعضهم البعض: عبد الرحمن معه حصان مدرب سريع، ومتى هزمنا فر بحصانه، وتركنا نواجه الفهري منفردين.
وصل الحديث إلى عبد الرحمن فذهب إلى قائد اليمنين وقال له: يا أخي حصاني هذا سريع جدًا لا يمكنني من إجادة رمي العدو، فخذه وأعطني بغلتك.
عرف اليمنيون أن هذه ليست أخلاق من ينوي الفرار ساعة الهزيمة.
هزم عبد الرحمن الفهري، وفكر اليمنيون في القضاء على كل فلول قوات الفهري وهنا ظهرت شخصية عبد الرحمن القائد المنتصر المحنك، لقد منعهم وقال لهم: "لا تتّبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم".
المعنى: اتركوا هؤلاء فبعد قليل سيصبحون من الأصدقاء وسنستعين بهم في قتالنا لعدونا الحقيقي، يعني الأوربيين، خاصة الفرنسيين منهم.
هل تم الأمر لعبد الرحمن؟
لا، لقد تعرض أثناء حكومة لخمس وعشرين ثورة، واحدة منها كانت قاسية جدًا، فقد أرسل أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي لدولة بني العباس جيشًا جرارًا لينتزع الأندلس من يدي عبد الرحمن.
ألتقي الجيشان وربح عبد الرحمن، فعرف بنو العباس أن لا طاقة لهم بقتال هذا الشاب.
قال المؤرخون: كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له: بالتأكيد هو أنت.
فقال لهم: لا. فعدّدوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية.
فقال: لا. ثم أجابهم قائلاً: بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه.
قالوا: إن عبد الرحمن كان خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مطبوعًا، وله شعر يناجي فيه نخلة، ذكرته بأيام الشام والعراق، فالأندلس أوربية والنخل عربي، فهو كالنخلة، غريب في بلد غريب.
بحسن سياسته وشدة عزمه نجا عبد الرحمن من خمس وعشرين ثورة، ثم نظر إلى حال الأندلس، نعم هو بعيدًا جدًا عن أرض خلافة العباسيين لكنه على مرمي حجر من الأوربيين أعداء العرب والمسلمين، فعمل على تكوين جيش قوي مدرب، وقد بلغ عدد جيشه مئة ألف فارس.
ثم أصلح حال البلاد من ناحية الطرق والمعمار وأنشأ المساجد الكبيرة وعلى رأسها مسجد قرطبة الشهير، وقرب إليه العلماء والفقهاء والماهرين في كل صنعة وفن، فمالت إليه قلوب الرعية وتوجه حاكمًا مهيبًا محوبًا لا ينازعه في الحكم أحد.
وظل عبد الرحمن الذي أسس دولة الإسلام في الأندلس يخرج من معركة ليدخل في ثانية إلى أن جاء اليقين، فمات وهو في التاسعة والخمسين من عمره في العام 172 من الهجرة الشريفة وقد ترك الأندلس إحدى أقوى بلدان الإسلام.