مدفع صوت: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.. أمين الأمة

الإثنين، 25 أبريل 2022 02:00 م
مدفع صوت: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.. أمين الأمة
أبو عبيدة بن الجراح
ريهام عاطف

أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- هو أحد الذين بشّرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنّة، و قد أثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَدَحه فلقَّبه أمين الأمَّة ، كما شهد أبو عبيدة بن الجراح الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكذلك شهد جميع المشاهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومما شُهد له ثباتُهُ في أُحُد، وإزالة الحلقتين اللاتي عَلِقن في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بفمه حتى سقطت ثنيّتاه؛ أي السِّنيْن الأماميين.
 
نزلت بـ أبو عبيدة بن الجراح الآية التالية بعد أن قام بقتل والده في يوم بدر، قال -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ). كان من أحبّ الناس للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت أن النبي سُئل: (قيل: يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إليك؟ قال: عائشةُ، قيل: مِن الرِّجالِ؟ قال: أبو بكرٍ، قيل: ثمَّ مَن؟ قال: عُمَرُ، قيل: ثمَّ مَن؟ قال: أبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ).
 
أبو عبيدة بن الجراح
أبو عبيدة بن الجراح
 
 
إسلام أبي عبيدة بن الجرّاح
لمَّا بعث الله -تعالى- سيِّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام آمن معه سيِّدنا أبو بكر الصِّديق -رضي الله عنه-، ثمَّ انطلق مع رسول الله يتخيَّر النَّاس ويدعوهم سرَّاً، فاستبشر بأبي عبيدة، فحدَّثه عن الإسلام، فلقي منه قبولاً واستجابةً، فتوجَّه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع أبي سلمة بن عبد الأسد، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن مظعون -رضوان الله عليهم-،فكرَّر عليه شرح الإسلام، فأسلم مع نفرٍ آخرين جميعاً في ذات الَّلحظة، وكان ذلك في بدايات الدَّعوة قبل أن يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم بن أبي الأرقم.
 
 
 وقد كان عُمْره آنذاك خمسةً وعشرون عاماً، ممَّا يدلُّ على أنَّه دخل الإسلام باختياره، فهذا السِّنُّ الذي يكون الإنسان فيه قد اكتملت قدراته العقليّة والجسديّة، فلا يزيحه عن رأيه ومبدئه أيُّ إغراءٍ، فقد وجد أبو عبيدة في الإسلام الحقَّ الذي يبحث عنه، والعدالة بأبهى صورها، ممَّا ساعده على البقاء والثَّبات على دينه، فقدم التَّضحيات متَّبعاً قول الله -تعالى-: (قُل إِنَّني هَداني رَبّي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ دينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا وَما كانَ مِنَ المُشرِكينَ).
 
فضائل أبي عبيدة بن الجراح وصفاته
إنّ لأبي عبيدة فضائل كثيرة، منها ما يأتي: من أحبِّ النَّاس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فعن عبد الله بن شقيق -رضي الله عنه- قال: (قلتُ لعائشةَ: أيُّ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ كانَ أحبَّ إليهِ؟ قالَت: أبو بَكْرٍ، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قالت: ثمَّ عمرُ، قُلتُ: ثمَّ من؟ قالَت: ثمَّ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ، قلتُ: ثمَّ من؟ فسَكَتَت)، وبنفس الترتيب أجابت عائشة -رضي الله عنها- على أنّه لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخلفاً أحداً، لاستخلف أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ أبا عبيدة.
 
 
كما أن للصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- العديد من الصفات الكريمة والخِصال الطيّبة، فقد عُرِف أبي عبيدة بن الجرّاح في الجاهليَّة بالحِكمة والفِطنة والرأي السَّديد والذَّكاء، واشترك مع أبي بكر -رضي الله عنه- بذلك، فكان النَّاس يقولون: "داهِيَتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجرَّاح"، ويُقصد بذلك الذّكاء والفطنة والرأي السديد، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الناسُ مَعادِنُ خِيارُهم في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهم في الإسلامِ إذا فَقُهوا).
 
 
كما عرف عنه الزُّهد في الدُّنيا ، والورع وحسن الخلق والحِلم واللّين كما وصفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بالهيِّن الليِّن قائلا "عليكم بالهيِّن الليِّن، الذي إذا ظُلِم لم يَظلِم، وإذا أُسيء إليه غَفَر، وإذا قُطع وصَلَ، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين؛ عامر بن الجرَّاح".
 
 
أحد العشرة المبشرين بالجنَّة: 
فقد روى عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (أبو بَكْرٍ في الجنَّةِ، وعمرُ في الجنَّةِ، وعُثمانُ في الجنَّةِ، وعليٌّ في الجنَّةِ، وطَلحةُ في الجنَّةِ والزُّبَيْرُ في الجنَّةِ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ في الجنَّةِ، وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ في الجنَّةِ، وسَعيدُ بنُ زيدٍ في الجنَّةِ، وأبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ في الجنَّةِ).
 
وقد لقبة رسول الله بـ أمين الأمَّة: حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أمِينًا، وإنَّ أمِينَنا أيَّتُها الأُمَّةُ أبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ)، والأمين هو الثِّقة، وسبب إطلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه هذا اللّقب جاء في حديثٍ يرويه حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، حيث قال: (جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجْرانَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يُرِيدانِ أنْ يُلاعِناهُ، قالَ: فقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ؛ فَواللَّهِ لَئِنْ كانَ نَبِيًّا فَلاعَنَّا، لا نُفْلِحُ نَحْنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعْدِنا، قالا: إنَّا نُعْطِيكَ ما سَأَلْتَنا، وابْعَثْ معنا رَجُلًا أمِينًا، ولا تَبْعَثْ معنا إلَّا أمِينًا، فقالَ: لَأَبْعَثَنَّ معكُمْ رَجُلًا أمِينًا حَقَّ أمِينٍ، فاسْتَشْرَفَ له أصْحابُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: قُمْ يا أبا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ، فَلَمَّا قامَ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا أمِينُ هذِه الأُمَّةِ).
 
 
كان أيضا  أحد الرَّجلين اللذين اختارهما أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ليبايعهما النَّاس يوم السقيفة: فقد قال للنَّاس أن يختاروا أيهما شاؤوا عمر أو أبو عبيدة، وقد عيَّنه عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- والياً لمَّا عزل خالد بن الوليد -رضي الله عنه-.
 
 
جهاد أبي عبيدة وأعماله 
شارك أبو عبيدة -رضي الله عنه- في غزوتيّ بدرٍ وأُحُدٍ والحديبية،وقد تعرَّض له والده كثيراً في غزوة بدر ليبارزه ويقتله، وفي كلِّ مرَّةٍ كان -رضي الله عنه- يحيد عنه، حتى أكثر والده من ذلك فقام بقتله، فأنزل الله -تعالى-: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وقد أبلى بلاءً حسناً في أحد، ونزع حلق المغفر اللّتين كانتا قد انغرزتا في وجنتيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأسنانه، فوقعت مع كلِّ حلقة ثنيَّة من ثناياه -أي من أسنانه-، حيث خاف أن يخرجها بيده فيؤذي النبي -عليه الصلاة والسلام-، فقيل فيه: "ما رأي هتم -أي أسنان- أحسن من هتم أبي عبيدة بن الجراح".
 
 كما أرسله رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على سريَّة جيشِ ذات الخبط، كما أرسله والياً إلى أهل نجران، وكان أحد الأمراء في بلاد الشَّام بعد أن عزل عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، فوضع أبا عبيدة -رضي الله عنه- مكانه، وكان نَقش خاتم أبي عبيدة: "الخُمُس لله".
 
 
وقال ابن حجر -رحمه الله-: "كان فتح أكثر بلاد الشَّام على يده"، كما جعله أبو بكر -رضي الله عنه- في خلافته على بيت مال المسلمين، وجعله عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أمير الأمراء في الشَّام، وكان أمير الجيش يوم فتح دمشق، وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ليمدَّه بالجيش، ولمَّا جاء أهل اليمن يطلبون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل معهم مَن يعلمهم القرآن والسُّنَّة أخذ بيد أبي عبيدة أمين الأمّة واختاره لهم.
 
 
 وفاة أبي عبيدة 
ظهر مرض الطَّاعون في بلاد الشَّام في السَّنة الثَّامنة عشر من الهجرة، والذي سُمِّي بعام الرَّمادة؛ فقد أصاب النَّاس قحطاً شديداً، فقام عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- يدعو الله -تعالى- بالاستقساء حتى أنزل الله -تعالى- المطر، ثمَّ من كثرة الجثث التي ماتت بسبب الجوع ظهر مرض الطَّاعون، وكان أبو عبيدة آنذاك في الشّام، وبدأ المرض في بلدةٍ تقع ما بين الرَّملة والقدس اسمُها عمواس، فمات آلاف النَّاس، وكان أبو عبيدة -رضي الله عنه- أمير النَّاس ولا يمكنه أن يخرج من مكانه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها)، وفي المقابل من ذلك فقد كان -رضي الله عنه- زاهداً في الدُّنيا معرضاً عنها، لكنَّ عمر بن الخطَّاب كان حريصاً على أبي عبيدة راغباً أن يتسلَّم الولاية من بعده، فأرسل إليه يريد قدومه، لكنَّ أبو عبيدة رفض أن يترك قومه على هذا الحال كما ذُكِر سابقاً في فضائله وورعه.
 
 
ضريح أبو عبيدة بن الجراح
ضريح أبو عبيدة بن الجراح
 
 
فلمَّا رأى عمر -رضي الله عنه- ذلك علم أنَّ أجله قد اقترب، ونصحه بأن يخرج بقومه من البلد الرَّطبة أرضها إلى الجافة، فاستدعى أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- وأمره أن يبحث عن أرضٍ جافَّة لينتقل النَّاس إليها، لكنَّ المرض بعد ذلك وصل إليه فأصابه، ولمَّا أحسَّ باقتراب أجله كتب وصيَّةً لعمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أنَّه ردَّ كلّ أمانةٍ إلى صاحبها، وأدَّاها إلَّا امرأةً كانت قد نكحت قبل انقضاء عدَّتها، وأنَّ الزَّوج كان قد أرسل له مئة دينار، فأمر القوم أن يردُّوها له، ثمَّ أوصى بدفنه غرب نهر الأردن ناحية الأرض المقدَّسة، ثمَّ خاف أن يعتاد النَّاس ذلك ويصبح من عادتهم، فقال أن يدفنوه حيث يموت، كما أوصى بإقامة أركان الإسلام، والزُّهد في الدُّنيا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكّرهم بالموت، ثمَّ توجَّه إلى بيت المقدس ليصلِّي فيه فأدركه الموت في الطَّريق وتوفّي -رضي الله عنه- قبل أن يصل بيت المقدس. ووقف معاذ بن جبل بعد وفاة أبي عبيدة -رضي الله عنه- يخطب بالنَّاس ويذكِّرهم أن الموت حقٌّ، ويأمرهم بأداء الأمانة، وأن لا يهجر المسلم أخاه المسلم، والتعجيل في التَّوبة إلى الله -تعالى-، ثمَّ قال: "إنّكم أيها المسلمون فجعتم برجل ما أزعم أنني رأيت عبداً أبرّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشدّ حباً للعامة، ولا أنصح للأمة منه، فترحموا عليه، رحمة الله، واحضروا الصلاة"، ثمَّ أرسل معاذ -رضي الله عنه- كتاباً إلى عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- يخبره فيه بموت أبو عبيدة، فحزن عمر -رضي الله عنه- حزناً شديداً، وعيَّن عيَّاض -رضي الله عنه- بالشَّام، وقال: "لا أغيِّر أميراً أمَّرَهُ أبو عبيدة"،وقد بلغ أبو عبيدة من العمر حين وفاته ثمانيةً وخمسين عاماً. 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق