عندما سطع نور الرجل الثانى "3-4"
الأحد، 24 أبريل 2022 09:00 ص
معاوية بن أبى سفيان.. الرجل الذي أسس دولة
جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة عربية إسلامية وأنشأ ترسانة بحرية مقرها مصر وقامت الترسانة بتصنيع السفن اللازمة للحرب والتجارة ونقل المسافرين
من الصفوف الخلفية جاء الصحابي معاوية بن أبي سفيان لكي يصبح الرجل الأول.
لم يكن معاوية عليه وعلى صحابة رسولنا الكريم الرضوان، من السابقين الأوائل، ولم تكن له صحبة إلا متأخرًا جدًا، فالمشهور أنه وأسرته قد أسلموا بعد فتح مكة، فكيف تقدم هذا الرجل الصفوف حتى تمكن من عرش الرجل الأول؟
معاوية رجل ابن أسرة عريقة متقدمة، فأبوه هو سيد قريش بل سيد مكة، ومكة لم تكن على تلك الهيئة التي تظهر بها في مسلسلات التلفزيون، لقد كانت مكة في مكانة هونج كونج الآن، كانت ممرًا للتجارة العالمية، كما كانت كما هى الآن قبلة العرب، وبها مواسم العمرة والحج، فانظر إلى حال رجل يسود هذه المدينة التي كانت دولة.
أما أم معاوية فهى هند بنت عتبة من سيدات قرش ومكة التي تقود ولا تقاد وتناقش وتجادل وتعرف ما لها وما عليها.
بين هذين الأبواين نشأ معاوية، ولا شك عندي في أن أبويه قد رأيا فيه ما جعلهما يرشحانه للسيادة والقيادة.
روى الطبري: «قال أبو هريرة: رأيت هندًا بمكة كأن وجهها فلقة قمر، ومعها صبي يلعب، فمرَّ رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلامًا إن عاش ليسودن قومه، فقالت هندٌ: إن لم يَسُدْ إلا قومه فأماته الله". لم يكن الصبي اللاعب إلا معاوية !
وقال محمد بن سعد: "أنبأنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف، قال: نظر أبو سفيان يومًا إلى معاوية وهو غلام، فقال لهندٍ: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند: قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة".
ثم دخلت الأسرة الإسلام فأصبح معاوية قريبًا جدًا من الرسول، لقد أصبح من كتاب الوحي، وهذا شرف ليس فوقه شرف، وكان معاوية يستحق هذا الشرف لأنه كان متعلمًا مثقفًا يعرف الحساب ويعرف العربية كأحسن ما تكون المعرفة، ثم أن أخته زود رسول الله أم المؤمنين حبيبة بنت أبي سفيان، ولذا كان كثيرون ينادونه بخال المؤمنين.
بعد رحيل الرسول، جاء أبو بكر فلم تقل مكانة معاوية ولا والده ولا أمه، لقد كانوا سادة في كل العصور وفي كل العهود، وشارك أبو سفيان وابنه معاوية في معارك الردة مشاركة مذكورة محمودة، وكان معهما ابن لأبي سفيان هو يزيد، وكان من أكابر قادة المسلمين.
ثم جاء عهد الفاروق عمر، وعمر ليس لينًا مثل صاحبيه الرسول والصديق، فكيف ستكون العلاقة بين معاوية وعمر؟
كان الفاروق معجبًا بمعاوية فمسنوب إليه أنه قد ذكر معاوية في مجلسه فقال: "دعوا فتى قريش وابن سيدها، إنه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلا على الرضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه".
ثم مات يزيد بن أبي سفيان وكان عاملًا على دمشق، فتحدث الفاروق مع أبي سفيان وعزاه في وفاة ابنه.
ثم سأل أبو سفيان الفاروق: "يا أمير المؤمنين من وليت مكانه؟". رد الفاروق: "أخاه معاوية".
فقال أبو سفيان: "وصلت رحماً يا أمير المؤمنين".
رد أبو سفيان كله لباقة وكياسة، ولكنه ليس حقيقيًا، فعمر لم يسند الولاية لمعاوية من باب صلة الأرحام، لقد جعله واليًا لأنه يعرف جدارته ويعرف قدرته على إدارة شئون بلاد دخلت الإسلام منذ قليل.
فورًا كتب أبو سفيان إلى ولده معاوية: "يا بني، إن هؤلاء الرهط من الناس سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصّر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة وصرنا أتباعا، وقد ولّوك جسيماً من أمورهم فلا تخالفهم فإنك تجري إلى أمد.. فنافس فإن بلغته أورثته عقبك".
أما سيدة قريش السيدة هند فقد كتبت مهنئة ولدها بالمنصب الرفيع: "والله يا بني قل أن تلد الحرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر فاعمل بطاعته فيما أحببت وفيما كرهت".
ظل معاوية هو رجل الشام الأول على مدار عهد عمر والخليفة عثمان بن عفان، والشام لم يكن هو دمشق فقط، الشام هو كل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
ثم كان استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان وجاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان ما كان من خلافه الدامي مع معاوية الذي كان معتصمًا بالشام لا يتزحزح عنه قيد أنملة، ثم بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تصالح معاوية مع الإمام الحسن بن علي ليصبح معاوية هو رجل الأمة الأول وليس الشام فحسب.
رجل غير معاوية كان سيركن إلى نعيم الملك وجاه الإمارة ويتفرغ لترف العيش ورخاء العرش، ولكن معاوية كان رجلًا من حديد، يعرف أعباء السلطة ويخاف على دولته وقد عزم على أن يتركها سيدة الدول لا ينازعها منازع.
كانت الأمور هادئة منضبطة في جزيرة العرب وكذا في بلدان إفريقيا التي دخلها الإسلام، المشكلة كانت في الحدود الشمالية حيث دولة الروم.
معاوية السياسي المحنك العارف بأمور الدول عهد إلى حرب استنزاف لا تتوقف، يهدر فيها إمكانيات الروم ولا يخسر هو فيها شيئًا، فبحث عن قواد عظماء يعرفون حروب العصابات، فعهد بالقيادة العسكرية إلى رجال أمثال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبسر بن أرطاة، فلم تكن غارات جيوش معاوية تنقطع عن الروم صيفًا أو شتاءً.
كانت الغارات ناجحة جدًا حتى قرر معاوية فتح القسطنطينية ذاتها!
هذا قرار خطير جدًا فعاصمة الروم ليست مثل أي عاصمة.
تقول كتب التاريخ: في العام الخمسين من الهجرة النبوية الشريفة جهز معاوية حملة كبيرة من البر والبحر لتغزو القسطنطينية، وأعطى قيادة جيش البر لسفيان بن عوف الأزدي، أما الأسطول فقد قاده بسر بن أرطأة، وحوصرت عاصمة الروم، وجرت اشتباكات بين الطرفين خسر فيها المسلمون خسائر كبيرة، فعمل معاوية على إرسال نجدة كبيرة بقيادة ابنه يزيد ومعه أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن العباس. وبوصول النجدة ارتفعت معنويات المجاهدين فاشتد الحصار، وأصاب المسلمون من الروم وإن لم يستطيعوا فتح القسطنطينية، وقد استُشهِد في هذا القتال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد كانا على رأس الذين يثيرون حماسة المجاهدين.
أي طموح هذا؟
نعم لم يتمكن معاوية من فتح القسطنطينية كما أراد ولكنه تمكن من جعل البحر الأبيض المتوسط مجرد بحيرة عربية إسلامية، فقد أنشأ ترسانة بحرية وجعل مقرها في وطننا العظيم مصر، وقامت الترسانة بتصنيع السفن اللازمة للحرب والتجارة ونقل المسافرين.
وهذا إنجاز لم يسبق إليه معاوية واحد من الحكام.
وقبل التفكير في فتح عاصمة الروم كان معاوية قد ضيق الخناق على الروم ففتح كل الجزر القريبة من العاصمة مثل رودس وأرواد، وقد كان لجزيرة أرواد أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية.
وكانت جيوش معاوية قد فتحت جزيرة صقلية في العام 48هـ، وبعدها بعام واحد فتحت جزيرة جربا.
وبالعودة إلى جزيرة أرواد فقد اتخذ الأسطول الإسلامي مقرًا له في حصاره الثاني للقسطنطينية، نعم الحلم لم يغب عن معاوية ولذا فقد حاصر العاصمة وظلَّ مرابطًا أمام أسوارها من سنة 54هـ إلى سنة 60هـ، وكانت هذه الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية، وقد أرهق هذا الحصار البري والبحري البيزنطيين كما أنزل المسلمون بالروم خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك فقد ظلت العاصمة مستعصية.
غارت معاوية على الروم لم تجعله يهمل شأن المغرب العربي، فتم في عهده فتح معظم تونس ثم وصل الفتح إلى المغرب الأوسط الذي هو الجزائر، كما تم فتح بعض المدن السودانية.
أما في الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية فقد تقدم المسلمون حتى وصلوا إلى تلال بخارى الواقعة في دولة أوزباكستان حاليًا.
النجاح الذي حققه معاوية عليه الرضوان جعله شخصية مركزية في التاريخ الإسلامي، فهو حسب الأستاذ إبراهيم الإبياري "الرجل الذي أسس دولة"، فقد عاشت الدولة الأموية التي أسسها في الشام قرابة المئة عام، أما الدولة التي تفرعت عنها ونعني دولة الأمويين في الأندلس فقد عاشت قرابة الثمانية قرون.
ونختم تلك الرحلة مع معاوية بطائفة من أقوال العلماء والصحابة عنه.
يروي ابن الأثير في أسد الغابة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله أسود من معاوية. فقيل له: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا -والله- خيرًا من معاوية وأفضل، ومعاوية أسود".
وسُئِل عبد الله بن المبارك ذات مرة أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبد العزيز؟، فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله أفضل من عمر بألف مرة، صلى معاوية خلف رسول الله فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد. فما بعد هذا؟؟
ويروي الطبري مرفوعًا إلى عبد الله بن عباس قوله: ما رأيت أحدًا أخلق للملك من معاوية، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رَحْب.
ويَقْول ابن تَيمْية: "فَلمْ يَكنْ مِن مُلوكِ المُسلِمْين مَلِك خيرًا مِنْ مُعاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل.
نواصل الرحلة في الأسبوع المقبل بإذن الله مع شخصية جديدة.