كلمة ابنتي (الحلقة الثالثة)
الإثنين، 18 أبريل 2022 03:23 م
يمتلك مصنع بلاستيك بعد التعافي من الإدمان، لكن كان في بدايته يعمل في توريد أدوات كهربائية لمكان هام، وكل المكسب ينصب في شراء المواد المخدرة، ومنذ سادسة إبتدائي بدأ تدخين سجائر مع أصحاب شلة سيئة والهروب من المدرسة، وكانت كلمة ابنته السر في شفائه، بعد مواجهات صعبة تناسى فيها نفسه كما تناسى أعز ما يملك.
يقول "عمرو.ع" مدمن متعافي وافتخر لمدة 4 سنوات ونصف، عمره 41 سنة، ورحلته مع الإدمان بعد تدخين السجائر بدأ يخلط الحشيش فيه لمدة حوالي 16 سنة، وكان حاصل على شهادة الدبلوم، حتى بدأ في أخذ أقراص مخدرة وبسببها أصيب بقرحة المعدة، واضطر بأوامر الأطباء الامتناع عنها بعد شعور المعاناة والتعب الشديدين منها، لكن لم يمتنع عن المخدرات بشكل عام لدرجة أنه بدأ في تناول الهيروين في عام 2005.
عمرو كان تزوج في عمر صغير حوالي 20 سنة رزق بولد وبنت خلال 4 سنوات، وكانت حياة زوجية مزعجة كلها مشاكل بسبب تصرفات عمرو وخناقه وصراخه وبطشه وتأثير المخدر في جسمه، وعدم الانفاق على أسرته وأبنائه، خاصةً أن زوجته كانت لا تعلم شيئاً عن تفاصيل إدمانه قبل الزواج فكان الوضع مرفوض شكلاً وموضوعاً، واستحالة العيشة بينهما وتم الطلاق.
الطلاق لم يكن حلاً بالنسبة لـ" عمرو" فزاد في تناول الهيروين وأصبحت حياته كلها له ونسي عياله وأم عياله، ولا يخطر على باله مرة السؤال عنهم أو معرفة أحاولهم وهذا زاد الجفا والبعد بينهم، مع مواجهات ومعاناة لمحاولات أهله لردعه، لكن كانت المحاولات تفشل وتم ايداعه في أماكن علاجية كثيرة، لكن عمرو ليس داخله قرار بالتوقف عن المخدرات حابب حياته الخاطئة و"المتلخبطة"، حتى شعر أهله باليأس منه أنه ممكن يتغير أو ينصلح حاله.
ترك منزل أهله وعاش في منزله بعد تصرفاته المخجلة بسرقة أشياء منها ذهب ومخزون البيت والتصرف فيه ليحصل على مال لشراء المادة المخدرة ، وحول شقته إلى دولاب مخدرات وأصبحت مرتع ووكر لأصحابه المدمنين، وبالتالي أصبح المكان مشبوة فسكان العقار يخافون من الداخلين والخارجين وغير مرحب في وجود عمرو كجار لهم، فقد عمله وزوجته وأولاده وأهله حتى جيرانه، ولا يفعل شئ غير الإدمان وليس معه ثمنه!!!.
يؤكد عمرو أن هناك أماكن خاصة للشفاء من الإدمان جيدة وأماكن أخرى سيئة، لكن الأماكن ليست مشكلة، والعقبة كانت بداخله ينكر وجود "تبطيل" عن المخدر وأنه لا يستطيع الامتناع، فكان أول يوم خروج من المؤسسة العلاجية يتناول فيه المادة المخدرة، ويعتبر الفترة التي قضاها داخل المؤسسة العلاجية مجرد إرضاء لأهله وحتى يحصل على مكافآت عينية ملابس وموبايل للاهتمام به لعدم عودته، حتى وصل لمرحلة أنهم رفضوا التعامل معه " مش عايزينك في حياتنا".
وكانت بداية المواجهة النفسية مع "عمرو" بعد مرور سنوات طويلة و نهره من أسرته لعدم السؤال على أولاده ومشاهدتهم لدرجة أنه لا يعلم سنهم وأشكالهم ، وبدأ يفوق لنفسه ويعيد تفكيره كانت ابنته الكبيرة وصلت 12 سنة وشقيقها 10 سنوات، وطليقته كانت لا تطالب بنفقة ولا أي مصاريف لكي لا تدخل في مواجهة عقيمة، فكانت لاغيه وجوده من حياتهم وحياة أولاده، وعمرو لا يبالي كل هذه الفترة بهذا لا يعرف كيف يصرفون ويدرسون ولا يخطر على باله السؤال؟.
وفي ذات مرة شقيقه الأصغر منه بـ 7 سنوات، صرخ في وجه لكي يفوق لنفسه قائلاً له:" أنت عندك عروسة" نزلت هذه الجملة على رأس عمرو كالصاعقة لينتبه بشئ كان ناسيه، ليواجه صعوبة في الامتناع يريد التوقف عن المخدر لكن لا يعرف كيف؟، ووصل لمرحلة أنه يتناول جرعة انتحار وليس جرعة عادية من المخدر، وكان الحقن في مكان خاطئ فأصيب بصديد على صدره كله، ويحاول الالتزام بالعلاج وفي نفس الوقت يأخذ المخدر، كل تفكيره أصبح في الموت ونهاية حياته، قائلاً:" فاشل حتى في الموت".
وذات مرة أحد زملاؤه الذين تعافوا وكان يتناول معه المخدر قابله حكى لـ" عمرو " عن تجربته مع الخط الساخن "16023"، واقنعه أن التوقف عن المخدر ممكن وليس كما كانوا يعتقدوا وشرح له تغيير حياته للأفضل بعد التعافي، كان عمرو يسمعه لكن غير مدرك لما يقوله فهو جرب مرات عديدة في مؤسسات علاجية ولم يتم شفائه، وبعدها سمع كلامه وذهب معه وانتظر 3 أسابيع دون أن يتوقف عن المخدر حتى يوم احتجازه كان يتناول المادة المخدرة بالرغم أنه يمر بتحاليل، ومع ذلك تم التغاضي وبدأ البرنامج العلاجي له مع حسن معاملة لم يشاهدها من قبل، مع التحدث معه في حياة وسلوك وليس ابتعاد عن مواد مخدرة فقط.
فهم عمرو أنه لازم يتعامل مع نفسه أن لديه مرض مزمن مثل السكر والضغط ولابد أن يتكيف معه بالمتابعة مدى حياته مع اتباع قواعد ومبادئ حتى يستمر على التعافي، حتى شعر براحة نفسية وتقبل التوقف عن كل ما كان يفعله، مع مشاهدة متعافين "شكلهم حلو" اندمج معهم وتعايش لمدة أول 6 أشهر، وبدأ يفكر في أبنائه حتى مرت سنة بيحاول التواصل معهم لكنهم غير مصدقين أو لديهم خوف أنه لا يمكن يتغير، حتى مرت سنتين وتفاجئ أن ابنته 14سنة تتحدث معه مثل أي شخص كبير، وبدأ أهل طليقته يلاحظون التغيير في أسلوب كلامه وهدوء طبعه وعدم خروج أي لفظ جارح وكل هذا لم يكن من قبل، عمرو كان سليط اللسان ولا يمكن التفاهم معه.
بدأوا يتحدثون معه بأسلوب حاد وعنيف وكله إهانة، لكنهم وجدوه يصمت ولا يتعامل كما كان وفي قرارة نفسه كان يعلم أنه أخطأ خطًأً كبيراً في حقه وحق أولاده ولذلك كان لا ينطق بكلمة وتأكيداً أنه أصبح شخص ثاني ذو طباع حسن، وكانت البداية في التحدث مع ابنته التي أصبحت أنسة كبيرة ملفوفة القوام سعيد برؤيتها وحزين من داخله أنه كان بعيد ولم يمر بمراحل عمرها، وجاء في مرة وطلب الخروج معهم" الأبناء" لقضاء وقتاً يعوضه ويتقرب منهم، وشاهده أحد زملائه في الشارع وكان متأرجح في أنه يسلم على عمرو، كان معتقد أن ابنته زوجته ومحرج يتقرب منهم، فقاله عمرو أنها ابنته فرد عليه" ما شاء الله بقت طولك"، هذه الجملة رعبت عمرو من داخله وعقله يذكره " أزاي مكنتش شايف ده".
وكان أصعب موقف مر به عمرو عندما حكى عن "كلمة ابنته" بصوت مخنوق وصعوبة في الكلام ودموع محبوسة والسكوت لحظات بكل تأثير ابنتي قالتلي كل لما حد يسأل عنك كنت بقول أنك "ميت"...، وهذا الموقف بالتحديد افاقه مما كان فيه من غيبوبة، وكما ذكرت متأثر جداً بالرغم من مرور سنوات، وهذا اعطاه دافع أنه لازم يجعلها تشاهده في وضع أحسن كلما مر الوقت، وبدأ يضع أهداف أولهم الاستمرار في التعافي، وثانيهم تقديم المساعدة لمن يطلب التعافي مع تكثيف حضور المتابعات العلاجية والمشاركات والحصول على طاقة إيجابية أكبر.
أصحاب المتابعات العلاجية أصبحوا الأقرب له مرورهم بنفس التجربة مع اختلاف الظروف جعل التفاهم والحديث سهل، بعكس الأشخاص في الخارج، يرى عمرو أنهم بعاد ولا يفهموه أو أصحاب مصلحة مثل ما كان يعرفهم أيام الإدمان، ويوصف أصحاب التعافي أنهم بجواره في الفرح والحزن والشدة "السند" في جميع المواقف، والأهل والأمان.
بالطبع طليقة عمرو لم تعود له بعد التعافي اعتبرته تجربة وانتهت، لكن هذا فتح المجال أمام عمرو لإعمار بيت ثاني بزوجة وأولاد أخرين "ولد وبنت"، وبيحاول يجمعهم مع أخواتهم الكبار لتوثيق العلاقات بينهم، وكان قبل دخوله زيجة ثانية قرر المصارحة بكل التفاصيل لعدم وضعه في موقف محرج فيما بعد، وتمت الموافقة بعد السؤال عنه والتأكد من صلاح حاله، والتجربة الأولى بكل أخطاءها سبب نجاح التجربة الثانية وتقويم كل السلوكيات التي تؤدي للفشل ليتحول إلى زوج يحتوي زوجته ويهدأها في ساعة الغضب ويؤكد أنه يتعامل كيفما يتعامل معه الأخصائي المعالج له وتعلم منه ويطبق عملي داخل أسرته.
رجع اشتغل وحالته المادية اتعدلت كثيراً ويعوض كل حرمانه في السنوات السابقة في بيته مع زوجته وأولاده الجداد مادياً وعاطفياً ونفسياً، مع تغيير مكان سكنه منذ 5 سنوات، ويمتلك مصنع بلاستيك بمشاركة شقيقه، ويعتبر أن المدمن المتعافي أفضل من الشخص السليم الذي يفقد تجارب أو التحكم في مشاعره.
فكان اللجؤ إليه أيام الإدمان ليشارك في خناقة، لكن في هذه الأيام يستعينوا به ليحل المشكلة و الدفاع عن الحق دون خسائر والتحدث بهدوء، والفكرة عنه تغيرت بشكل تام وأصبح لديه ملكة في الكلام والحكمة والتفاهم، وعندما تقف أمامه مشكلة كبيرة يلجأ لعزوته وأصحابه المتعافين ليشاركوه في الحل ويقفون بجواره مع الأطباء والأخصائيين المعالجين له، ورسالته الشخصية أن التعافي أهم الأولويات ورسالته للشباب أن المخدر يفقد الرجولة والجدعنة والأهداف والصلاح.
قصة عمرو تعلمنا أن الفرصة والتجربة الثانية ممكن تكون طوق النجاة والحل الأمثل، وفشل تجربة ليس نهاية المطاف، وأن الوقوع في الخطأ ليس عقوبة بمقدار الاستمرار في هذا الخطأ دون تقويم ومراجعة، عمرو مازال متأثر ويشعر بالذنب وهذا كان واضح خلال حواره، لكن التغيير للأفضل قرار ومن لا يملك قراره لا يلوم إلا نفسه.