عيدك في الجنة يا أمي

حينما يصفر لون القمح يقوم بعض الفلاحين غير الخبراء بالزراعة بري الزرع علي أمل أن يبقي في الأرض أكثر حتي تنضج سنبلاته، ولكن الخبراء بالزراعة يتركونة ويتأملونه لأنهم يعرفون ميعاد الحصاد، وحينما اصفر لون أمي وقاربت علي نهايتها كنا أنا وأخوتي قليلي الخبرة فضيعنا الأيام الاخيرة في البحث عن أمل بين الأطباء وأعطينا أمي كمية أدوية في شهرين لم تتناولها طوال عمرها،  وهي التي كانت تعالج كل أوجعاها بحباية «ريڤو»، وبرغم تضائل الأمل كنا لا نريد أن نعترف، لأنها قوية وستتخطي الأزمة كما عاهدناها فلأكثر من 40 عاما عاشتهم أرملة بمفردها تواجه الحياة بسته أطفال ومراهقين، فكانت لنا صفافة تدلدل شعرها لنستظل به وقت الحر وغضب الأيام،  ونتمسك بجذعها حينما تعصف بينا ريح الأزمات، مرت بكل المحن وهي واقفة وثابتة لم تنحني سوي لله.

 

 

بعدما انقضي شهر رمضان وهي زاهده في كل شيء إلا قليل من الماء والطعام، حرصت أن نحتفل بالعيد بكل طقوسه من شراء بسكويت وكحك وملابس جديدة لأولادنا وبعدما اجتمعنا حولها  أوصتنا عندما تموت أن لا نصرخ او نفعل شيء يغضب الله وأمرتنا ان نشتري لها كفن أخضر وكيف لا تحب الاخضر ؟ وهي التي عاشت عمرها تخضر الأرض بفأسها، كما امرتنا، أنن نأكل ونشرب بعد أن ندفنها، وإذا غلبنا  نبكي عليها بحنيه.. ديونك يا أمي لا تسدد حتي بعد موتك خائفة علينا وحريصة أن نأكل ونشرب ونتخطي الأزمة.

 

 

كان ما يؤلمني أنها ماتت علي أجهزة العناية المركزة وحدها وهي التي كانت تحب لمة العيلة، ودائما ما أسأل نفسي كيف استقبلت أمي النهاية، وبعد هدوء عاصفة حزني عليها تذكرت انا هذا كان خيارها  فعندما افاقت الافاقة الأخيرة من الغيبوبة سألها أخي هل تريدي أن تذهبي للبيت قالت: بحزم" لا" وكأنها اشفقت أن تحطم قلوبنا بودعها الأخير فأرادت أن تموت وحدها، لقد ماتت أمي وعشت شهور لا أستطيع أن أكتب كلمات تفيها حقها، أو تعبر عن مشاعري اتجاها أو حزني عليها، لقد عاشت أمي تزرع وتحصد، وتبني افران الخبيز لاهل قريتي، وعلمتني كيف أعشق أرضي ، فالفلاحين لهم معاني تخصهم تلخص عشقهم للأرض كل مفردتها تعلمتها من أمي احتفائها بعيدان الذرة وعنايتها بالقطن وطريقة جمعها للفول، معرفتها بحجم محصول ارضنا من القمح فكانت تأخد بعض سنابل القمح وتفركها في كفها وتقول الارض هاتجيب كام أردب، والشهور القبطية التي كانت تحفظها وتدلل عليها بالأمثلة «برمهات روح الغيط وهات» و«بشنس يكنس الارض كنس »

 

كل المعاني عن الحب والكرامة والارتباط بالوطن تعلمتها من أمي، كانت تربط كل احداث الوطن بالزرع، فتصف الرئيس عبد الناصر أنه كان « جدع وشهم » وتردد مطرقة برأسها لأعلي دا رجع« لملتزمة» جاموستها وكان هايرفد عمدة قرية دهتورة، لما ارسلت له جواب تشكو من ظلم العمدة لها، وتضيف: عبد الناصر لما مات حتي شجر القطن حزن عليه.

 

 

كانت أمي حكأة تأخذك من يدك لتدخلك شوارع القصة وتقف علي نواصيها، تصف بصوتها وملامحها لدرجة انها تدمع وتضحك وهي تحكي، فعندما كانت تصف احداث معركة المنصورة الجوية يوم 14 اكتوبر 1973 والتي دفعت فيها اسرائيل فيها بأكثر من 60 طائرة حربية لضرب القواعد الجوية المصرية في الدلتا للرد علي الضربة الجوية لمطارتها في السادس من أكتوبر تقول ( جاءنا الغفير يجري وطلب من أهل عزبتنا والعزب المجاورة أن نطفي النور ، فخرجنا من شدة الخوف والهلع خارج البيوت وكنت أحمل أختك إبتسام صغيره علي كتفي وهويدا وماجدة في يدي، وقفنا تحت التوتة، وفروعها كانت هاتتكسر من شدة هواء الطيارت..ووسط خوفنا وصراخ الاطفال، دوي صوت في الفضاء.. اضرب يامحمد فخرج صاروخ من القاعدة الجوية ليضرب طائرة اسرائيلية لتسقط في بحر ميت غمر ..لنسمع التكبيرات..ولأكثر من ساعة والطيارات هووو هووو وظللنا نحتمي بأشجار القرية خوفا من أن ننام في بيوتنا للفجر»..لتصحو من هول المعركة الحربية علي الوليمة التي اعدتها بعد عودة خالي «عبد العاطي » منتصرا من الحرب.

 

 

أمي كانت قوية مثل شجر قريتنا فقد مرت علينا أيام صعبة ولكنها لم تشتكي أبدا لأحد، ولم تشعرنا أننا في أزمة كانت توقظنا كل يوم الساعة السادسة قائلة كل الناس خرجت لأشغالها وانتم نائمين للظهر، علمتنا أن العمل مهم  وأن الحياة لا تنتظر أحد، كانت تعاملنا علي أننا كبار وتحترم رأينا وكثير من الاوقات كانت تتركنا نقود وعينها علينا بالنصح والارشاد.

 

 

في عيد الأم الأول علي رحيك  أدعو الله أن يكون عيدك في الجنة ياأمي.. وسلام علي روحك الطبية وسلام وتحية لكل الأمهات المكافحات في ربوع مصر الحبيبة اللواتي يحاربن حتي ينجو بأبنائهن من تروس الأيام..