مدينة المخلصين.. الإخلاص عبرة ننتزعها من المقارنة بين مشهدي خسارة أمم أفريقيا في 2019 و2022
السبت، 12 فبراير 2022 06:08 ممصطفى الجمل
في الكاميرون اكتمل أضلاع مثلث الإخلاص.. جمهور لا يدخر جهداً لدعم بلده ولاعبون هبوا منتفضين للحفاظ على رصيده.. ودولة وفرت لبن العصفور لتحقيق النجاح
لم يخلق الله شيئاً على هذه البسيطة هباء بلا علة ولا سبب، ولم يعرضنا لمواقف حياتية لنمر عليها مرور الكرام، فلا عبادة أكبر عند الله من التدبر لاستنباط العبرات والعظات، والآيات القرآنية ومثيلاتها في باقي الكتب السماوية عن قيمة التفكر الذي هو أعلى بكثير من مجرد التفكير لا حصر لها.
ولم يكف الرب عن إخبارنا في كل كتبه السماوية عن ذلك السلوك الذي خص الله به نسل آدم عن باقي المخلوقات، وليرغبنا في التدبر، جعله دليلنا الأوحد للوصول إليه، وحتى لا نسقط في منتصف الطريق أخبرنا أيضاً أنه يقدر رحلة الوصول إليه ويجازي على كل خطوة فيها بما فيها من عناء ومشقة، بغض النظر عن النتيجة، وأخبرنا مجدداً كيف هو يفضلنا على بعض بناء على مسار كل رحلة، فمن هب واقفاً قاصداً سبيله في رحلة لا زاد فيها سوى التدبر والتفكر، ليس كذلك الذي جلس يركع ويسجد بجسده، لأن ذلك ما وجد عليه آبائه وأجداده.
وعندما تشرع في رحلة معينة وتصل لنفس النقطة في كل مرة، ولكن تتباين ردود أفعال من حولك وتنقلب من سخط في المرة الأولى إلى رضا وثناء في المرة الثانية، فعليك عزيزي الجالس الآن في أي مكان أن تقف لحظة مع ذاتك، وتسألها عدة أسئلة عن ذلك الأمر الذي أحدث الفارق في تعاطي من حولك معك، وما الذي حولهم من حانقين إلى مشيدين، ومن مسبين إلى مصفقين، ومن لاعنين إلى منشدين باسمك واسم اجتهادك.
الأسبوع الماضي، كنا على موعد مع درس جديد من دروس الحياة، وبتنحية الحكمة الفلسفية القائلة بأن النجاح رحلة لا وصول جانباً، هيا بنا ننظر إلى كيفية تفاعل الشعب المصري مع خسارة فريقهم القومي لنهائي بطولة أمم أفريقيا أمام نظيره السنغالي على الأراضي الكاميرونية، بعد ماراثون طويل قطعه كل فريق، ليصل لتلك المحطة التي لا يرى التاريخ فيها غير الفائز باللقب، ومع ذلك لم يلعن المصريون ممثليهم في هذه البطولة مثلما فعلوا في بطولة 2019، التي أقيمت على أرض المحروسة، وخرج الفراعنة فيها من دور الـ 16 وسط سباب من الجماهير للاعبين والإداريين واتحاد الكرة، على تخاذلهم وتفريطهم في بطولة كنا نظن وكل الظن هنا إثم أنها محجوزة لمصر لا محالة.
وقبل أن تقرر أن الفارق بين المشهدين هو وصول المنتخب في المرة الثانية إلى النهائي، وفي سابقتها خروجه من أدوار متأخرة، دعني أذكرك بأن المنتخب قد كان يخرج من هذا الدور وينال إشادة الجماهير المصرية لو كان قد قابل أحد الفريقين اللذان وصلا إلى النهائي "الجزائر، السنغال"، وأدى أداء قتالياً ولم يكن الحظ حليفه.
في حقيقة الأمر أن الفارق بين المشهدين هو تخاذل لاعبي مصر في البطولة التي استضافتها بلدهم، وتعاليهم على الكرة التي لا تجالس ولا تقبل على من يتعالى عليها، ولا تتركه يلعب أبداً أي دور من أدوار البطولة، وهو الأمر الذي كاد يتكرر في البطولة المنتهية منذ أيام أيضاً، لولا أن الجماهير أظهرت عينها الحمراء وساعدها الإعلام المصري كذلك، فانقلب الأمر رأساً على عقب، وتأكد اللاعبون أنهم على موعد جديد مع وصلة عتاب وغضب قد تقضي على مسيرتهم المستقبلية في ملاعب كرة القدم، وأنهم حال تكرار الأمر سيكتبون كلمة النهاية لهم بقميص منتخب مصر، فلم تكن الجماهير لتقبل مرة أخرى أن هذا الجيل يمثلهم في أي من المحافل الدولية مستقبلاً، وهنا ظهر محمد صلاح نفسه الذي انتقد بشدة في 2019، وجلس مع لاعبيه باعتباره قائد منتخب مصر، وقرأ لهم المستقبل لو أكملوا البطولة بنفس الروح التي كانوا عليها في دور المجموعات، وأطلعهم على غضبة المصريين التي تنتظرهم، فما كان منهم إلا أنهم تبدلوا.
وعلى الجانب الآخر، خفف صلاح بخبرته في الملاعب الأوروبية الضغط، وطالب الإعلام والجماهير بمساندة الفريق كما كانوا يساندون الجيل الذهبي، الذي احتفظ بالأميرة السمراء ثلاث مرات متتالية في 2006 و2008 و2010.
وهنا اكتمل أضلاع المثلث، جمهور مخلص بطبيعته لا يدخر جهداً لدعم بلده التي يمثلها هؤلاء اللاعبون في بطولة الأمم الأفريقية، ولاعبون شعرواً بأنهم مقصريون فهبوا منتفضين للحفاظ على ما تبقى من رصيد لهم عند الجماهير، ودولة توفر لبن العصفور لتحقيق النجاح، وإدخال الفرحة على قلوب كل المصريين.
هذا ليس صلاح الذي شاهدناه هنا في مصر، يأتي من ناديه على أجازه يقضيها عام 2019 في مدينة الجونة، قبل أن يتفضل ويقرر الانضمام لمعسكر الفريق قبل يومين فقط من انطلاق البطولة، التي كان يظنها سهلة عليه هو ورفاقه.
صلاح الذي كان يخشى على نفسه من الإصابة في بطولة 2019، لم يترك مربعاً في ملعب مباريات منتخب مصر في بطولة 2021، وبالتحديد من بعد مباريات دور المجموعات إلا وداسه بقدمه، لم يخشى صلاح على أي أمر سوى ضياع البطولة، قاتل في مباراة كوت ديفور واستقتل في مباراة المغرب، وحارب في مباراة الكاميرون وللأمانة لم يدخر جهداً في مباراة السنغال أيضاً.
الفرق لم يكن في صلاح وحده، وحتى إن غاب عنصراً كان فاسداً كاللاعب عمرو وردة عن هذه البطولة، فيشكر لاعبو منتخب مصر على أنهم جميعاً كانوا في أعلى درجات التركيز، ولم يكن هناك ما يشغلهم عن حلم البطولة، لم نر لاعباً يصطحب شقيقه ولا آخر صديقه، ولا آخر يفتعل المشكلات التي يحدثها فارغ الوقت، بدافع الوقت الطويل الذي قضوه في بلد ليس بها أي مجال للترفيه.
من ذهب لمشاهدة مباريات منتخب مصر في هذه البطولة، وعاين البلد التي كانوا يقيمون فيها لمدة تزيد عن الشهر، يعلم تمام العلم مشقة المعيشة فيها ولو لمدة يوم واحد، نقص حاد في الخدمات، فنادق بها العديد من المشكلات، طرق غير ممهدة، أجهزة للاستشفاء بدائية جداً، هذا إن وجدت من الأساس.
كنا على موعد في هذه البطولة مع شكل من أشكال الإخلاص، الذي يستحق الثناء بغض النظر عن النتيجة، أخلص للحقيقة الجميع، ولم يدخر أحداً جهداً، فاستحق العمل الثناء المتبادل، الجماهير تشكر اللاعبين على ما بذلوه من جهد لتحقيق البطولة، واللاعبون يشكرون الجماهير على تحملهم عناء بدلاً من الرحلة سبعة، وفي كل مرة كانوا يخرجون من المطار إلى الملعب ومن الملعب يعودون إلى المطار، قاطعين 24 ساعة بلا نوم، ويمكنك القول بضمير مستريح بلا دخول للحمام إلا في أشد الظروف.
حتى في تبادل الأدوار، لم يكن هناك بين اللاعبين ضغينة ولا حقد تضرب لم الشمل ولا الهدف الذي اجتمعوا عليه، رأينا محمد الشناوي يخرج مصاباً فيحل محله العالمي محمد أبو جبل، وبعد كل مباراة يكون الشناوي أول النازلين للملعب لتهنئته، وفي خسارة النهائي كان أول من احتضنه ليشد من أزره، ويواسيه على ضياع الحلم الذي اجتهد كثيراً من أجله، وكذلك الأمر بين أحمد حجازي ومحمد عبد المنعم، وبين أحمد سيد زيزو وحمدي فتحي، كان بينهم ألفة أعادتنا لمشاهد طالما أحببناها في الجيل الذهبي، الذي كان يلفظ أي عنصر يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة الفريق، فلم ير أحمد حسام ميدو فانلة المنتخب مجدداً بعد اعتراضه على تبديله ونزول عمرو زكي بدلاً منه في بطولة 2006.
كان صلاح يتقدم الصف للحديث مع أي حكم، مضحياً بشعبيته في أوروبا التي لا ترضى كثيراً على اللاعب الذي يجادل الحكام وينشغل بالدخول معهم في أحاديث جانبية، وكل ذلك كان بهدف تخفيف الضغط عن باقي لاعبي الفريق، ونجحت تلك الخطة مع حكم مباراة الكاميرون بكاري جاسما، المعروف بنواياه غير الحسنة تجاه الفراعنة، التي ترجمت في أفعال ترهيب للاعبين والجهاز الفني خلال تلك المباراة، وكانت النتيجة طرد البرتغالي كارلوس كيروش، ليحرم من التواجد على الخطوط في المباراة النهائية، والتي ربما كانت تحدث فارقاً في تلك المباراة، التي لم يكن هناك غنى فيها عن قائد يقرب الخطوط من الداخل وكذلك من الخارج.
في المباراة النهائية، ومع احتساب ركلة جزاء على منتخب مصر في الدقائق الأولى من مباراة السنغال، ذهب محمد صلاح لمحمد أبو جبل، ليخبره بالزاوية التي يسدد فيها ساديو ماني والمفضلة لديه، وكان ساديو يعرف أن صلاح سيخبر أبو جبل، فذهب تجاههما ليفشل خطتهما، ويلعب بأعصاب أبو جبل، وأشار لهما إلى زاوية عكس التي ينوي التسديد فيها، فما كان من صلاح إلا أنه أخبره بأن يفعل ما يشاء ولكن أبو جبل سيعاقبه في النهاية، وأتى العقاب سريعاً بتصدي أبو جبل لهذه الركلة.
خلاصة القول أن الفارق بين المشهدين في 2019 و2022 كبير جداً عزيز القارئ، والسبب يرجع في ذلك أولاً وأخيراً إلى إخلاص الجميع، بداية من الدولة التي كانت في ظهر الفريق منذ أول لحظة، والأندية التي استغنت عن لاعبيها وهي في أشد الحاجة إليهم سواء في بطولة كأس الرابطة، أو حتى النادي الأهلي الذي خاض كأس العالم للأندية وسط غياب 15 لاعباً أساسياً 6 منهم كانوا يشاركون مع المنتخب، مروراً باللاعبين الذين لم يكن بإمكانهم أفضل مما قدموه وبذلوه، وانتهاء بالجماهير التي شعرت بصدق نوايا المنظومة المشاركة في البطولة، فحملت نفسها عناء الرحلة الطويلة للوقوف في ظهر اللاعبين، ولم تكسر بخاطرهم عندما فشلوا في تحقيق اللقب، وأمرطوا عليهم عبارات الثناء والتشجيع، ولم يطالبوهم بشيء سوى تحقيق الحلم مجدداً، والعبور إلى كأس العالم للأندية عبر بوابة فريق السنغال العنيد.