نسب ابن الزنا (الحلقة الأخيرة)

الإثنين، 27 فبراير 2017 06:05 م
نسب ابن الزنا (الحلقة الأخيرة)
د. سعد الدين الهلالي

فى الحلقة السابقة من الدراسة المهمة التى تنشرها صوت الأمة للفقيه الأستاذ سعد الدين الهلالى، عن ابن الزنا ونسبه، توقفنا عند رأى الفقيه الهلالى الذى أكد فيه أن نفى نسب ابن الزنا لا يقوم على دليل من الكتاب ولا من السنة، وإنما هى شبهات لا ترقى لمستوى الأدلة القاطعة، وفى حلقتنا لهذا الأسبوع نواصل مع الفقيه الهلالى رؤيته عن ابن «الملاعنة».
وهو الذى يتلاعن أبواه بعد أن يتهم الرجل زوجته بأنها اقترفت الفاحشة.

يقول الفقيه الهلالى، ويجب التنبيه: إلى أن نفى الولد باللعان لا يمنع - عقلاً ولا شرعاً - من قيام أحد المعنيين باستلحاقه. يقول الكمال بن الهمام: لو ادعى شخص نسب ولد الملاعنة قبل منه وثبت النسب، لإمكان كونه وطأها بشبهة.

هذا، وقد أحسنت هذه المرأة الملاعنة تربية ولدها الملاعن، حتى أخبرنا عكرمة عن ابن عباس قال: فكان بعد ذلك أميراً على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.

الخامسة: قالوا: إن إلحاق ولد الزنى بالزانى مخالف للإجماع الذى عليه الفقهاء.
قلت: ليس هذا إجماعاً لما فيه من خلاف حكاه ابن رشد وذكره ابن حجر، وإن وصفوه بالشذوذ فى موضع، وبالقلة فى موضع آخر. كما ذهب الحنفية إلى أنه يجوز للزانى أن يتزوج المزنى بها ويلحق الحمل الذى منه به.

ثم إننى أقول: إن هذا الإجماع المزعوم على منع نسب ولد الزنى من الزانى يعارضه إجماع آخر، وهو مشروعية الاستلحاق ممن يطلبه بشروطه، التى أهمها: أن يمكن أن يكون الولد منه، وأن لا ينازعه فى ادعائه أحد، ولا يشترط فى كل حال أن يثبت الفراش الشرعى.

يقول ابن تيمية: لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابنى، لحقه باتفاق المسلمين، إذا كان ذلك ممكنا، ولم يدع أحد أنه ابنه.
وأقول أيضا: إنه إجماع لا سند له، بل هو قائم على التناقل من بعض الكتب ولا يعرف له مصدر، فكتاب الإجماع لابن المنذر والذى يشتمل على ٧٦٦ مسألة إجماعية فى أكثر أبواب الفقه، لم يتضمن خبرا واحدا عن إجماع المسلمين فى نفى نسب ولد الزنى وعدم مشروعية إلحاقه بصاحب الماء، لا من قريب ولا من بعيد.

تناولت الكتاب سطرا سطرا، وبخاصة مظان موضوعاته فى أبواب القضاء، والتنازع، والمحرمات فى النكاح، والحدود، واللعان، والمفقود، والميراث. ولا يوجد لذلك ذكر، مع شهرة إشكالية المسألة، لأن وجود ابن الزنى لا يخلو من زمن، فمن أين جاء هذا الإجماع الموهوم؟
السادسة: قالوا: إن إلحاق ابن الزنا بالزانى يجعل للحرام أثرا، مما يشجع على الاغتصاب.

قلت: الاغتصاب قائم، والزواج العرفى منتشر، ولعل من أهم انتشار تلك الأمراض: الزيادة السكانية الهائلة مع عدم الزيادة فى الجوانب الدينية والأخلاقية وتشغيل العمالة العاطلة، وتوفر الثقافات الغربية الدخيلة بعد الانفتاح العالمى فى شتى الوسائل الفضائية والإعلامية.. وهذا مدعاة لأهل الذكر فى الفقه الإسلامى أن يعيدوا النظر فى أحكام بعض المسائل المتوارثة بأعراقها القديمة، والتى أساسها الاجتهاد والرأى ومن ذلك مسألة تنسيب ابن الزنا، حتى لا تتسع الفجوة بين الفقه الإسلامى وبين الواقع الحياتى.

وأما القول: بأن الحرام سينتج أثرا لو ألحقنا ولد الزنى بالزانى فالجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا أخف الضررين، أحدهما: ضياع الولد وإلقاؤه على أعتاب المساجد أو بجوار صناديق القمامة. ثانيهما: تنسيب الولد للفاعل والذى سيأخذ جزاءه بالعقاب الشرعى المعروف، فإن مات تولى الطفل عصبة الفاعل الآثم.

الوجه الثانى: أنه ليس كل حرام لا أثر له، فمن الحرام الذى له أثر وثمرة: شرب الخمر عمداً، والذى يرتب إنفاذ التصرفات عند الجمهور، واغتصاب الإمامة الذى يرتب إنفاذ حكم الحاكم الجديد ووجوب السمع والطاعة له ؛ لعدم الفتنة. وغير ذلك كثير.
السابعة: قالوا: نحن لا نعرف الفاعل الحقيقى الذى منه ولد الزنا؛ لأن الإخبار سيكون من جهته أو من جهتها، وهما فاسقان لا شهادة لهما.

قلت: إن هذه شهادة على النفس وليست شهادة للنفس فتقبل؛ قياسا على قبول الاستلحاق والإقرار بالنسب شريطة أن لا ينازعه أحد فيما ادعاه، وأن يكون ممكنا عقلا بأن لا يقر بنسب من يساويه فى السن.

كما أن الأمر لو كان يرجع إلى عدم معرفة الفاعل الحقيقى فالحكم إذن لا يرجع إلى إسقاط نسب الزانى وإنما يرجع إلى العجز عن الإثبات. وتلك مسألة مرجعها قواعد الإثبات وقد أغنانا الإسلام بالتوسع فى ذلك حتى شرع القيافة كما هو مذهب الجمهور.
الثامنة: قالوا: كيف يستوى ابن الزنا مع ابن النكاح فى النسب.

قلت: إن النسب فى الإسلام درجات، وقد أشار الرسول لذلك فى قوله: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك» فقد عرف الإسلام تدرج الأنساب، وهو معمول به فى كل دول العالم. وأتساءل أين يقع نسب ابن السيد من زوجة حرة، ونسب ابن السيد من أمته؟ يوم أن كان معمولاً بنظام التسرى، وأين يقع نسب ابن الرجل من زوجته، ونسب ابن الرجل من موطوءته بشبهة؟

لقد ذهب أكثر الفقهاء إلى تنسيب ابن الوطء بشبهة للفاعل، وصورة ذلك أن يطأ الرجل امرأة أجنبية فى فراشه، ظنها زوجته، وهى فى الحقيقة جارته أو أخت زوجته أو زوجة أخيه، هنا ذهب جمهور الفقهاء إلى استبراء تلك المرأة، فإن كان لها زوج امتنع عنها حتى تضع الحمل الذى ليس منه، وينسب للفاعل أبا، وللمرأة أما، فإن نازع الزوج وقال هو منى وليس من الفاعل؟ احتكمنا للقيافة عند الجمهور، وينسب للاثنين جميعاً عند الحنفية. هل يجيز الفقه الإسلامى ذلك فى الوطء بشبهة، ولا يجيزه فى الزنا؟
يقال: الوطء بشبهة لا إثم فيه بخلاف الزنا.

قلت: والزنا فيه عقاب محدد وهو الحد، فهَّلا يكفى عقاب الله بالحد؟ لماذا نضيف عليه عقاباً من عندنا وهو الحرمان من النسب، الذى لا يعتبر عقاباً للفاعل الآثم بقدر ما هو عقاب للطفل البريء؟
التاسعة: قالوا: إن النبى لم ينسب ابن الجهينية وهى المعروفة بالغامدية من ماعز.

قلت: كيف يكون هذا والتنسيب لا يكون إلا بحجة أو مظنتها أو إقرار من المستلحق الذى هو طالب النسب، لما يترتب على التنسيب من مؤنة النفقة والرعاية وحق الميراث.

ولا توجد حجة ولا مظنة الحجة التى هى حالة الزوجية، أو حالة اختصاص امرأة برجل، كما لا يوجد إقرار من الفاعل بتنسيب الحمل إليه، وإنما اقتصر إقراره على فعل الزنا، الذى يريد أن يتطهر منه، ولعل الغامدية كانت معروفة بالزنا معه ومع غيره.

أقول: وتقتصر الحجة على مظنتها فى حالتى الزوجية والتسرى فقط، ولا يقاس عليهما الزنا، لأن الزوج من حقه النفى باللعان، كما أن له حق مراقبة زوجته ومنعها من الانحراف. وللسيد الحق فى نفى الولد بدون لعان، كما أن له تحصين جاريته، أما الزانى لو اعتبرنا الفعل مظنة وجود الحمل منه، فأين حقه فى النفى، ولا لعان له، وأين حقه فى منع المزنى بها من معرفة غيره؟ لذلك اعتبرنا الأصل فى الزواج وجود الحمل لأن هذا مقصده، واعتبرنا الأصل فى الزنا المتعة الرخيصة لأنها مقصده.

وجعلنا فى مقابل ذلك: أن من حق الزوج نفى الولد باللعان إذا غلب على ظنه أنه ليس منه، ومن حق الزانى أن لا يستلحق الولد إذا غلب على ظنه أنه ليس منه.

العاشرة: قالوا: إن من أهم الأسباب وراء عدم تنسيب ابن الزنا من الزانى هو عدم التقين من كونه صاحب الماء الذى كان منه الحمل، بخلاف الزواج، كما يقول الشيرازى: «فإن الظاهر مع وجود هذه الشروط - وهى كما ذكرها قبيل ذلك: قيام الزوجية، واجتماع الزوجين، وهما ممن يولد لمثلهما- يمكن أن يكون الولد منه، وليس ههنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به».

أما الزنا فمسألة غير منضبطة، ولذلك وجدنا الشافعية - وهم أكثر المذاهب الإسلامية تشدداً فى المسألة، حتى أجازوا للزانى أن يتزوج ابنته من الزنا لقولهم إن ماء الزنى ماء هدر لا حرمة له- يترددون فى هذه الفتوى، حتى قال الإمام الشافعي: « أكره أن يتزوجها فإن تزوجها لم أفسخ». يقول الشيرازى شارحاً لقول الإمام: «فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفاً من أن تكون منه، فعلى هذا إن علم قطعاً أنها منه - بأن أخبره النبى فى زمانه - لم تحل له. ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف ؛ لأن أبا حنيفة يحرمها. فعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم، وهو الصحيح ؛ لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب، فلم يتعلق بها التحريم».
أقول: وبعد ثبوت وانتشار العمل بالبصمة الوراثية فى الدول المتقدمة، ودلالتها القطعية فى تحديد صاحب الماء الذى منه الولد، هل يجوز لنا أن نتجاهل هذا النور وتلك الحقيقة، ونظل نتمسك بشكوك حسمها العلم وقضى عليها.

الحادية عشرة: قالوا: لو أجزنا تنسيب ابن الزنا من الزانى لاضطربت الأنساب لإمكان وقوع الزنا مع اختلاف الأمصار، وتعدد الأسفار.

قلت: العدل يستلزم مساواة الزانى بالزانية فى حكم التنسيب؛ لعموم الحديث: « إنما النساء شقائق الرجال». ثم إن الزانى المسلم ليس أقل شأنا من الكافر حتى يمنح الأخير حق التنسيب دون الأول.

لقد أجمع المسلمون على تنسيب ولد الزنا من الزانية لفعل النبى ذلك مع ابن الملاعنة وابن الغامدية، ولقوله تعالى: «إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم». [المجادلة: ٢].

ويعلل الفقهاء ذلك بأن الأم معروفة قطعا بخلاف الفاعل، فإذا ما أرسل الله إلينا رسول العلم بالبصمة الوراثية لمعرفة الفاعل قطعا ألا ينطبق الحكم على الأب أيضا، فيكون الأب كما قال تعالى: «وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم». [النساء: ٢٣].

وإذا صح تنسيب ولد الزنا الكافر من أبيه الكافر فى حكمنا دون برهان إلا بادعائهم، فلماذا لا يحصل المسلم على تلك الميزة مع اشتراط البرهان ؛ لأن ديننا هو دين الحق.

يقول ابن تيمية: «إن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا فى نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما. واليهودى إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منها يلحقه نسبه ويرثه باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلاً باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافراً تجب استتابته».

ثم إننا نرخص للزانى وغيره أن يستلحق من الأطفال من شاء بمجرد الإقرار أو الإدعاء أنه منه دون استفصال عن حقيقة العلاقة التى جاء منها الولد، كما ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم، ويقولون: لأنه نفع محض للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال.

فلماذا لا نعلنها صراحة فى تنسيب ولد الزنا من صاحب الماء، مع التأكيد على ضرورة إقامة حد الله تعالى على كل مخطئ. قال تعالى: «ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» [النور:٢].

لماذا هذا التوجه فى إلحاق أولاد الزنى؟
أولا: لظهور «البصمة الوراثية» التى هى حجة الله فى الأرض لأهل هذا العصر.
ثانيا: إنقاذ المتشردين من أطفال المسلمين، وتقليل ظاهرة إلقاء المولودين على أعتاب المساجد، أو بجوار صناديق القمامة وأحياناً بداخلها.

ثالثا: تحميل المتسبب مسئولية التربية والإنفاق للقاعدة الفقهية: «الغنم بالغرم»، فكما غنم اللذة غرم التربية والنفقة.
رابعاً: التقليل من ظاهرة تزوير الأنساب، عندما تستغل المرأة غفلة زوجها فتلحق بزوجها من ليس منه، وقد صح عن النبى قال: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله فى شيء، ولن يدخلها جنته»)

خامساً: التقليل من ظاهرة التبنى الشائعة فى بلاد المسلمين رغم تحريم الله تعالى لها قطعاً فى كتابة: «وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم فى الدين ومواليكم، وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم، وكان الله غفوراً رحيماً». [الأحزاب: ٤، ٥].

هذا، فإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وإن كان صواباً فمن فضل الله سبحانه، وأتمثل قول الله تعالى على لسان شعيب، عليه السلام: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب» [هود: ٨٨].
وعن البصمة الوراثية يقول الفقيه الهلالى:

إن البصمة الوراثية لا تعرف من العلائق سوى العلاقة الطبيعية، التى أصلها ماء الرجل وبويضة الأنثى، وتستطيع التعرف على حقيقة نسب أى إنسان من جهتى الأم والأب الطبيعيين، دون النظر إلى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، نكاح أو سفاح.
والبصمة الوراثية ترشد الفقيه بحقيقة قطعية عند تحديدها للرجل المتسبب فى وجود الولد.

وإذا ما أخذنا بمذهب الجمهور: من نفى ابن الزنا من الزانى، فإن البصمة الوراثية التى تعين وتحدد الزانى تكون حجة على هذا الجمهور فى مساءلة الزانى، فإن أقر بالزنا وجب الحد، وإن لم يقر أو ادعى الشبهة فالواجب على الجمهور أن يلحقوا نسب الولد لهذا الفاعل باعتباره أنه وطء بشبهة، وهو وطء يفيد النسب عندهم.

أما إذا أخذنا بما ذهبنا إليه من تنسيب ابن الزنا للزانى إن علمناه، فالبصمة الوراثية حجة فى إثبات النسب للتأكد من الفاعل الحقيقى.
ثانيا: الأثر المترتب على الأخذ بالبصمة الوراثية فى اثبات النسب:
إن اعتماد البصمة الوراثية دليلاً للفراش الحقيقى ينشئ دعوى جديدة يمكن أن نطلق عليها: « دعوى تصحيح النسب»، لم يكن لها من قبل ذيوع، وإن كان أصلها فى الكتاب والسنة.

أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: « وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله « [الأحزاب: ٤، ٥]. يقول ابن كثير: هذا أمر ناسخ لما كان فى ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم فى الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر.

وأما السنة: فمنها حديث عائشة فى الصحيحين، من قصة عتبة بن أبى وقاص، الذى عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة منه، فلما اختلف مع عبد بن زمعة، ورفع الأمر للنبى قال: « الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبى منه يا سودة بنت زمعة». فهذه قصة تفيد التنازع لتصحيح النسب من بعض الوجوه، وإن كان فيها معنى دعوى الاستلحاق.

ثالثا: الفرق بين دعوى الاستلحاق وبين دعوى تصحيح النسب:
دعوى الاستلحاق: يعنى بها الفقهاء الإقرار بالنسب، فكأن المقر استلحق نسب المقر له إليه. ويشترط لصحتها ألا يكون الولد منسوبا لأحد

أما دعوى تصحيح النسب: فتعنى نفى نسب قائم وإثبات نسب آخر بضوابط خاصة. وهذه الدعوى لم يكن لها من قبل وجود إلا فى تصحيح نسب المتنبي وبعد ظهور وانتشار العمل بالبصمة الوراثية، ومعرفة الفراش الحقيقى، فيمكن لصاحب النسب المغلوط أن يستند إلى البصمة الوراثية كما يستند إلى وثيقة عقد الزواج للأبوين الحقيقيين، ويرفع بهما دعوى تصحيح النسب مستنداً إلى حديث البخارى، عن سعد بن أبى وقاص، مرفوعا: « من أدعى إلى غير أبيه، وهو يعلم، فالجنة عليه حرام»، وفى لفظ مسلم: « من ادعى أبا فى الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام»

وهذه الدعوى: تثير عدة تساؤلات بخصوص حكم نفى النسب بعد ثبوته الذى يرفضه الفقه الإسلامى.
ويخفف من هذه الدعوى: أنها فى الوقت الذى تنفى فيه النسب من جهة، فإنها تثبته من جهة أخرى غالباً؛ تصحيحاً للأوضاع، وهو أمر ممدوح شرعاً، ويتفق مع القاعدة الشرعية: الثابت لا يزول إلا بيقين.

وهكذا أوجدت لنا البصمة الوراثية نوعاً جديداً من الدعاوى، وفتحت باباً جديداً للتنازع، يجب أن نسلم بواقعه، ونستعد بحلوله الفقهية، وهو ضريبة التقدم التقنى والتفوق الطبى.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق