ديكتاتورية الحرية
الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021 06:16 م
ما حدث تجاه بعض الفنانين المعترضين على محتوى فيلم "ريش" من ردود أفعال واتهامات وتجريح يؤكد لنا أن لا أحد يتقبل الآخر، وأن القليلين فقط هم من يستطيعون احتواء المختلفين معهم بالنقاش المحترم المنطقي، ومواجهة الفكر بالفكر.
من حق أي إنسان أن ينتقد عمل فني ولا يتفق مع ما يقدمه دون تجريح، ومن حق أصحاب العمل الدفاع عن وجهة نظرهم بتحضر، وفي النهاية للجميع مطلق الحرية في اختيار قناعاتهم.
أما الغريب في الأمر أن يتم اتهام رافضي العمل باتهامات جزافية والتسفيه من آراءهم -من قبل دعاة الحرية - حتى وصل الحال بشخص ما أن يسخر من أحد الفنانين لأنه يزين مطبخه الخاص بعلم مصر!.
ما حدث هو مثال صارخ لبعض المشاهد الغريبة والمؤسفة التي نراها منذ فترة ونشعر تجاهها بالصدمة مع اكتشاف حقيقة الوجوه التي تتناقض أفعالها مع أقوالها وشعاراتها الرنانة، يحدث هذا باختلاف الأفكار والاتجاهات، سواء من بعض مدعي الفضيلة والشرف والمنادين بشعارات أخلاقية أو دينية عظيمة، ثم نكتشف فجأة أنهم يلجئون للكذب والتدليس أو خيانة الأمانة أو التزوير من أجل مصالحهم الخاصة، عملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة وغيرها من التصرفات التي تتناقض كلية مع شعاراتهم وما يدعون إليه.
قد أتقبل أو لا أتوقف عند تصرفات شخص علماني مثلا تجاه الثوابت الدينية ويصبح لسان حالي "دع الخلق للخالق"، أما أن أكتشف مثلا أن رجل دين كاذب أو سارق أو ارتكب فعل فاحش مثلا بالطبع سينتابني شعور الصدمة، حتى وإن كنت أنا شخصيا سارق فلا يجوز له وهو القدوة ومن كان يعظني ويؤكد لي على حرمانية السرقة أن يأتي بفعل مماثل والأفظع أن يكون رده "عادي فأنت أيضا سارق!".
هناك فئة أخرى عجيبة مريبة أود أن أشير إليها كي نفكر سويا وبشكل منطقي هادئ في حقيقة إيمانها بأفكارها، فهي فئة لا تشعر بالخجل من حالة "الشيزوفرينيا " التي تعيشها.. تطالب ليلا ونهارا بحرية الرأي وضرورة احتواء الآخر المختلف، في حين أنها لا تحترم حرية غيرها ولا تتقبل رأيه.
يقيم هؤلاء المتشدقين بالشعارات الرنانة الدنيا ولا يقعدونها ويشعلون النيران ما إذا تمت مهاجمتهم أو الاعتراض على أفكارهم أو رفضها مجتمعيا وعدم تقبلها، وتصبح ردود أفعالهم مماثلة تماما للأفعال التي ينتقضونها بحجة أنني أرد على الآخر!.
والسؤال هنا هل الأوقع والمنطقي أكثر أن يأتي ردي على الآخر بنفس أسلوبه القمئ (من وجهة نظري)، أم أن يكون تعاملي معه بالأسلوب الذي أؤمن به إن كنت حقا مؤمنا؟
في تصوري أن التعامل مع الآخر بأسلوبه لا يخدم الفكرة ولا يعزز القضية، فلا مبرر أبدا لاختياري سلوكا أرفضه وإلا فأنا شخص مشوش ولا أرفض ذلك السلوك حقا، وإلا ما سلكته أبدا وجعلته سائدا، بل على العكس فمن الضروري أن أظهر تحضري الذي أدعيه ومدى إيماني بأفكاري من خلال ردود أفعالي، وبالتالي أساعد في نشرها بشكل تلقائي وطبيعي دون افتعال وصوت عالي فارغ من مضمونه.
قد يجد هؤلاء في بعض المواقف التعاطف والمؤازرة ممن يتأثرون بدعاويهم وأفكارهم، إلى أن يظهر الوجه الآخر المتناقض تماما مع الشعارات الرنانة بعد سقوط الأقنعة فجأة، ويظهر المنادي بالحرية هو ذاته ديكتاتورا قامعا للغير، وربما أكثر شراسة وهجوما على الآخر المختلف معه، وينسى أفكاره حول الحرية والاحتواء والنقاش بالعقل وما إلى ذلك.
ويا سبحان مغير الأحوال، من يرفضون إطلاق الأحكام على المتوافقين معهم، فجأة يصبحون قضاة وجلادين ربما بشكل أسوأ وأصعب من الذي يعيبون عليه ويستنكرونه !
وبمراقبة مواقفهم المختلفة نستطيع التأكد من تناقضهم الواضح الذي لا تخطاه عين ولا يحتار فيه عقل، مما يفقدهم مصداقيتهم تماما ويفرغ فكرة "الحرية والديمقراطية " من مضمونها تماما.
ما يقوم به هؤلاء من هجوم فج على المختلفين مع أفكارهم، وكم الاتهامات التي يكيلونها للآخرين، وتسفيههم وسخريتهم ومحاولاتهم قهر أفكار الغير وقمعهم معنويا يعد أكبر مثال للنفاق الفكري فهم يقولون ما لا يفعلون، ويقبلون على أنفسهم ما ينكرونه على الغير، بالرغم من أن الآخر لم يتشدق أصلا بشعارات رنانة كاذبة تناقض أفعاله.
لذا أدعوا الجميع بمراجعة أفكارهم وتصرفاتهم ومصارحة أنفسهم بحقيقتها والوقوف أمام المرآة للإجابة على سؤال مهم وهو "هل أفعالي تتسق مع ما أدعوا إليه أم أنني أناقض نفسي حين تصطدم المواقف بمصالحي الخاصة؟.
في اعتقادي الشخصي أن من لديه رغبة حقيقية في تغيير المجتمع أو تعديل بعض السلوكيات التي يراها ضارة وضالة، عليه أولا البدء بنفسه من أجل إقناع غيره باتباعه .
قضيتي تكمن في ضرورة الاتساق مع الذات أولا.. وإيماني بأن الحرية إما أن تصبح عامة ومتاحة للجميع ما دامت في إطار الاحترام وإلا فعلينا أن نضعها جانبا حتى نستوعب معناها الحقيقي ونعرف كيف نحققها على أرض الواقع بشكل عادل على الجميع.
وإذا أردت لنفسي الحرية فلأمنحها لغيري أولا .