متى يكف الإنسان عن العبث بالطبيعة؟
الأحد، 01 أغسطس 2021 10:00 ص
يبدو أن الإنسان مذ كان وهو مولع باقتناء الحيوانات، وقد بلغ ولعه حد التقديس بل حد العبادة، فما أكثر ما أتخذ الإنسان من الحيوانات آلهة يعبدها ويقدم لها القرابين حتى ترضى عنه ويصبح من عبادها الصالحين.
وقد قرأت للباحثة إيناس لطفي بحثا عن تاريخ تقديس الإنسان للحيوانات جاء فيه: "في بعض العقائد القديمة والحديثة توجد حيوانات مقدسة يعتبرها البعض آلهة أو رمزا للإله، كما يظنون، والبعض الآخر يتخذها كوسيط للتقرب من الإله. وتوجد حيوانات احتلت مكانة عظيمة في حضارات مختلفة قديما واستمرت حتى الآن محتفظة بمكانتها المقدسة لدى كثير من الطوائف والقبائل وتمارس لها طقوسا دينية مختلفة. هذه بعض من تلك الحيوانات.
آبيس هو عجل بقري من الرموز المقدسة لدى الفراعنة، حيث كان يعيش في الحظيرة المقدسة وسط بقراته، وعند موته كان الكهنة يدفنونه في جنازة رسمية، ثم يتوج عجل آخر كرمز روحي بالحظيرة المقدسة وسط احتفالية كبرى، وكان يتم اختيار الثور آبيس بمواصفات معينة حيث كان أسود اللون ببقع بيضاء على جبهته وبين قرونه يوجد قرص الشمس".
وحتى يوم الناس هذا، هناك ثقافات عريقة تقدس البقر بل والفئران، ونحن نعلم أن الإيمان لا يناقش لأنه موقف فكري وثقافي واجتماعي ووجداني يخص كل إنسان ويسكن قلبه.
ذلك الولع هو في جانب منه، ولع محمود، خاصة والخلاق العظيم قد أمتن على الإنسان بتسخير العديد من أنواع الحيوانات له، ولا تستقيم حياة الإنسان بدون ذلك التسخير، فو يعتمد في جزء من مأكله ومشربه وملبسه على ما تنتجه تلك الحيوانات المسخرة، ولكن لأن الطمع جزء لا يتجزأ من تكوين معظم الناس، فقد رأوا أن إعلان سيطرتهم على الكائنات لن يكتمل إلا إذا جعلوا من الوحوش المفترسة مهذبة وخاضعة كأنها الأرانب اللطيفة أو القطط المدربة.
ومن هنا نشأت فكرة حدائق الحيوانات المسورة التي تكون غالبًا في قلب المدن وفي قلب كتلتها العمرانية والسكانية، وحتى الساعة لا أعرف أي معنى لأن يحبس الإنسان أسدًا لكي يتسلى برؤيته محبوسًا مقهورًا.
أي معنى يظل للأسد وهو محبوس لا يستطيع الحركة ولا الصيد ولا الزئير، وينتظر كأي قط أليف اليد التي تقدم له طعامًا باردًا سابق التجهيز، لقد خلق الأسد ليكون أسدًا يفرض هو إرادته وسيطرته على الغابة، ولكن ها هو أصبح بطمع الإنسان الحديث مجرد قط كبير منزوع المخالب والأنياب.
هل فهد الغابات هو ذاته فهد الحدائق المهندسة المحاصرة بأسوار الفولاذ والحديد؟
بل هل عصفور الأقفاص المنزلية هو ذاته العصفور الذي يتنق بخفة بين أغصان الأشجار ليلتقط رزقه وليطعم أولاده وليقيم عرشه ثم ليجود علينا بآيات غنائه وبابتهاله؟
جشع وطماع وأناني ومتكبر، هو إنسان العصر الحديث، يريد كل شيء ولا يشبع من شيء، يريد تمام وكمال السيطرة على الكائنات، حتى تلك التي لم تخلق لسيطرته، وهي فقط مسخرة لمساعدة على عمارة الكون، مجرد مساعدة، لقد تلاعب الإنسان الحديث بالطبيعة ولم يسمع صرخات التخويف من العاقبة، كم مرة حذر العقلاء من الاحتباس الحراري ومن أضراره؟
هل استمع أحد؟
أوربا المتقدمة المترفة هاجمتها الفيضانات المدمرة شردت الآلاف وقتلت المئات وخربت القرى بل والمدن، وقع كل هذا في أقل يومين وشاهدناه جميعًا بأعيننا، ولكن لم يتعظ أحد وستذهب صرخات العلماء أدراج الرياح.
وما كان أحكم شاعرنا الكبير صلاح جاهين عندما قال في رباعية من رباعياته الشهيرة:
"إنسان.. أيا انسان ما أجهلك
ما أتفهك فى الكون وما أضالك
شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم
وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك؟".
وقد وصل غرور الإنسان المعاصر إلى قيامه بتجربة عجيبة جدًا.
قام الإنسان المعاصر بتربية نسر، منفقًا عليه كأنه ولد من أولاده (ثمن النسر أصلًا مرتفع) ومع كل الانفاق والرعاية إلا أن منع النسر من شرط وجوده، لقد منعه من الطيران، تخيلوا معي نسر لا يطير.
ظل النسر ممنوعًا من الطيران غير مدرب عليه حتى بلغ أشده ثم في ذات صباح قرر الإنسان المعاصر تنفيذ تجربته، جمع حشدًا من أصحابه وجاء بالنسر المسكين ووضعه فوق صخرة عظيمة غير مستوية تشرف على وادٍ سحيق، وقال للنسر: هيا قم بالطيران.
يظهر الفيديو النسر المسكين بنظرات زائغة وكيان مرتعش وجناحين مترددين، كأن النسر كان يفكر، ماذا لو لم أفعلها وأقوم بالطيران؟ سأسقط في قعر الوادي السحيق، ثم ماذا لو حاولت الطيران وأنا لم أطر يومًا في حياتي.
كان النسر مترددًا وبعد لحظات صعبة وثقيلة مرت عليه كدهر، قرر أن يعود إلى فطرته وإلى طينته الأولى ونفض عنه الخوف والتردد وفرد جناحيه العظيمين وحلق في السماء، كان تحليقه الأول مرتبكًا ثم استقام في طيرانه إلى أن ابتعد عن صاحب التجربة وحط على صخرة بعيده يلتقط أنفاسه وينظر ساخرًا إلى الذي منعه من ممارسة شرط وجوده، لظن المسكين بأنه المتحكم في مصائر الكائنات فمن حقه أن يعبث بالغابات وبالجبال وبالحيوانات وبالنسور التي خلقت لتحلق عاليًا وبعيدًا.